التحول في تنامي إيقاع الممثل وإيقاع الشخصية

على الرغم من إن المسرح يشكل مجموعة من العلاقات المادية واللامادية ,التي تتمظهر أحيانا من خلال الشكل والصورة, هي في الحقيقة  كم من التحولات في العلاقات  المتبادلة بين العناصر, وكلما كانت المواد طيعة بيد المخرج والمصمم فستكون غزيرة بالتنوع ,على الرغم من إن كل عنصر من عناصرها يتخذ لنفسه علاقة سيميائية ضمن بنية إنتاج المعنى, ولهذا نجد أن من المتعذر أحيانا  التمييز بين حركة الممثل وبين الإيماءة بوصفها ممتزجة بالوقت ذاته كما هو الحال مع الزي والمظهر لدى الممثل ,وهو ذات الحال مع الإيقاع الذي يكون ضمنيا في حركته واداءة وموسيقاه وتنوعات إلقاءه ” فالتحول هنا هو جريان متحول لعلاقات مادية ولا مادية تعيد تجميع نفسها باستمرار”([1]).

و بهذا يصبح الفعل متحركاً ومتحولاً في جريان الزمن نفسه حتى التوقف, قد يشتمل بنفس الموقف على الرغم من كون الوقفات, عناصر ديناميكية وهذا الجريان  هو الذي يحدد وسيلة الإيقاع وسرعته والإحساس به بوصفه احد عناصر الممثل الخفية, وان الخشبة المسرحية شي ثابت لكنها في حركة دائمة  بين الممثل والشي الساكن, أن تعاقب الأفعال وردود الأفعال يتحدد لعقدة التوتر والتصاعد باستمرار كأننا في (تعارض ومفاجأة وكارثة), أن عقدة التوتر شكل درامي يحكمها عنصر الرذم المتحول في السرعة والقوة والشدة ولهذا فان عملية فصل الإيقاع عن الممثل هي بمثابة فصل الروح عن الجسد ويؤكد ارتو” على قسوة العناصر البصرية التي تتشكل بمصاحبة جسد الممثل الذي يعتمد على الحركة والإيماءة والإشارة والرقص لخلق مشاهد بصرية جمالية بلغة أشارية متجددة”([2]), إلا إنها عندما تخضع للدراسة, تصبح وظيفته وصفية لغرض تحليل سماتها الإيقاعية وتنامي درجاتها نحو التوتر” ويتأتى الحرص على الإيقاع والرذمية لأنه لازمة سلوكية للعرض وللممثل في آن واحد وانعدامها بمثابة قلب مريض,وسير أعرج,وحبسه في الكلام”([3]). 

 ويرى الباحث أن هناك مسرحيات لا حياة فيها عند القراءة  لكنه يمكن ان تنشط على وفق متغيرات الإيقاع من خلال خط التوتر, والممثل كما هو معروف مجموعة وافرة من الرسائل تتضمن صوته وإيقاعه وتعابير وجهه وحركته وإيماءته لذلك لا يستطيع الممثل إن يقدم ما يحتويه النص إنما يرغب باستمرار إلى تحولات أللاشعور على سماته الخارجية “أن سحر مسرحيات تشيخوف يكمن ليس فيما تنقله الألفاظ بل فيما يختفي خلفها إما في الوقفات أو في سيمياء الممثل أو في إشعاعات مشاعرهم الداخلية”([4]). ولما كانت هذه العلاقات دائمة التوتر فهي بالضرورة خاضعة للتحول من حال إلى حال, ومن موقف إلى موقف, ومن مشهد إلى أخر, وهذا التبادل أو التوازن بين طرفي العلاقة يسحبنا إلى خصائص التحول الزمني والتدريجي في العلاقات المكانية بين الممثل والخشبة, وعليه لابد أن ينشأ عبر هذا التحول تحول أخر في الإيقاع وفي التناسق والانسجام وربما التناقض, ولما كانت حركات الممثل تدرك وتقيم على وفق حركاتها السابقة, فان البناء الإيقاعي لدى الممثل هو الأخر يحسب على وفق تنوع الإيقاعات السابقة كون الممثل طاقة معينة مختلفة الحدة, وان علاقاته الدرامية مع الآخرين تفرض وتوحد من الشخصيات ,ذلك ان قوة عنصره الافرادي تكمن في قدرته على التلاعب بمجسات الإيقاع حتى وان لجأ المخرج احياناًً إلى خشبات خيالية محض تقنية يصعب تجسيدها. و يؤكد “مايرهولد على الاهتمام أولاً بحركة الممثل ،وبحسب وجهة نظره فأن الكلمات في الأغلب لا تعبر عن المعنى، لذا شدد وأهتم بالإيقاع من خلال حركة الممثل،أي أنّ الحركة تحقق شكلاً بصرياً وفي فضاء ربما يكون خال من الكلمات”([5]). إلا إن الممثل بقدرته الجسدانية يحول كل الجمود إلى أفعال متحركة في الفضاء الدرامي, وان الفضاء الدرامي يتخطى الخشبة بطريقة أو بأخرى ذلك أنها تتصل بحقل ديناميكي فوق الخشبة إلى حقل ديناميكي فوق الصالة ولهذا ترى بعض النظريات في  المسرح على أن الخشبة أو الصالة (كل واحد) من وجهة نظر الفضاء الدرامي ,وقد تحدث راينهارت في مقال عام 1928 حيث قال”يجب ان نرفض التقليد القديم الخاص باعتبار الصالة والخشبة مكانين منفصلين,([6]) فتوثر الصورة في المشاهد وأفعال وتصرفات الآخرين وتأثيرات ردود أفعالهم على عموم الصالة ,ويصبح النظام الاشاري والعلامي عقلي يكشف عن معنى الفعل وتبريره المنطقي ,ولهذا ذهب الرائدان –فريش وبوغاتريف إلى(أن الأشياء الأخرى التي تقع خارج نطاق الممثل تدرك بالحواس فقط أما الممثل وتعابير وجهه فيمكن النفاذ إليها عبر المشاركة الوجدانية المباشرة للمتفرج)([7]).

أن العلاقة بين الممثل والشخصية التي يجسدها هي من  نوع خاص, فقد يخلق الممثل الشخصية من نفسه ومن أحاسيسه واختياراته ,وقد تكون في معزل عن حياته الشخصية على وفق دراسته للشخصية, ويرى رأي آخر أن بعض الممثلين يستجيبون لردود أفعال المخرج حينما يوفر هما انفعاليا حاضرا أمام الممثل ويمليه عليه. في كل الأحوال فان المسافة الواقعة بين الممثل والشخصية هي مسافة بونية قد تضيق أحيانا وتتسع أحيانا أخرى, لكنها محكومة بعنصر الإيقاع أن عاشها جزئيا أو كليا .

أذن يتضح من ذلك توتر بين ذاتية الفنان وموضوعية عمله, وهذا التوتر يكون أكثر حده عند الممثل, لان شخصيته التامة هي المعبرة روحا وجسدا عن الشخصية الفنية, ولذلك فهي متنوعة بين عرض وأخر ومرحله وأخرى ,ومن هنا نجد أن المسافة التي تحكم إيقاع الشخصية هي مسافة فردانية ذاتية حصل عليها الممثل من نشأته داخل أسرته, وكذلك داخل محيطه الخارجي والذي أثرت عليه مجموعة العلاقات النفسية والاجتماعية والثقافية ,بحيث وضع لنفسه مجموعة من الحواس شكلت جزءا من إيقاعه ظهرت في حركاته الفردانية وأسلوب جلوسه ووضعيته الجسمانية ونبرات صوته وطريقة محادثته ولذا “فان للبيئة تأثير كبير في كيفية التحكم في التصرفات الخارجية للأشخاص”([8]).

ولعله بهذه الصفات يشكل وحده إيقاعيه خاصة به, أن جاز لنا التعبير يمكن أن نطلق عليها إيقاعه الخاص والضمني, وهو ما سيجعل هذا الأمر أكثر تعقيدا ذلك بسبب وجود عنصر ثاني محفز لإيقاع فرداني أخر هو الشخصية, والتي يصر المؤلف أن يضع لها خصائص إيقاعية غير مرئية تفرض نفسها في كل تصرفاتها وسلوكها أن كانت هذه الشخصية موضوعية أو خيالية ,وهنا نصبح أمام خيارين ,الخيار الأول يتحدد بوجود الإيقاع الذاتي الفرداني للممثل, والثاني يتمحور حول شخصية المؤلف المكتوبة ,ومن هنا تصبح عملية الإبداع بأرقى ما يمكن عندما يخضع الممثل أداءه وصوته وجسمه وإلقاءه كليا لإيقاع الشخصية في النص الدرامي, ولذات السبب فان تناغما إيقاعيا بين فسيولوجية الممثل وفسيولوجية الشخصية, ينطوي على الكثير من العقبات وربما الصعوبات والتي يحاول المخرج في أكثر الأحيان أن يحدد مسار الأداء المسرحي وإيقاعه بما يلاءم إيقاع الشخصية, وعندما يعجز الممثل عن مطاوعة إيقاعه لإيقاع الشخصية فإننا سنؤشر بوضوح ضعف الأداء المسرحي (فالاثنين الممثل كممثل والممثل كشخصية لابد أن يكونا متوازنين طبيعيا.وإذا ما ذاب الممثل في الشخصية تماما فستكون نتيجة العرض النهائية غير منضبطة ولا يعول عليها والعكس صحيح فإذا ما ركز الممثل على نوعية تمثيله على حساب الشخصية فسوف يأتي عرضه مزيفا وغير مقنع )([9]).

 وعلى وفق ذلك فانه غالبا ما يحدث إثناء العرض بان الممثلين مرتبطون بالإدراك المتوقع للجمهور والتلاعب بمزاجه إثناء العرض ,لأنهم أدركوا بان الشخصية الممثلة قد فرضت نفسها على امزجه المتفرج, وقد يحدث أن يشارك الجمهور عندما ينخرط الممثل في حديث مباشر مع الجمهور وقد نرى ذلك واضحا في المسرحيات الكوميدية أو الارتجالية عندما يفسر الممثل ضحك الجمهور استجابة ايجابية أو سلبية لكلامه وهو نطاق ضيق لكنه يشكل مساهمة فعاله في العرض المسرحي .



([1])  مجموعة مؤلفين,سيمياء براغ للمسرح دراسات سيميائية,ترجمة وتقديم:ادمير كورييه,دمشق :وزارة الثقافة,1997 ص 50.

([2]) ينظر: فينوز ،الينور، مقالات نقدية في المسرح ،تر: محمد الجندي،القاهرة : وزارة الثقافة ،مهرجان القاهرة الدولي، 1996،ص88

([3]) عقيل مهدي.المشترك الفني والجمالي, بغداد, مطبعة بلقيس,    2009 ,   ص79

([4])  مجموعة مؤلفين .سيمياء براغ  مصدر السابق ص54

([5]) ينظر: مايرهولد، فيسفولد، في الفن المسرحي ،تر: شريف شاكر،بيروت: دار الفارابي،ج2,ص78.

([6])  D,Babler:MaX reinhard,le Decorde da1878 a1914,CNRS,paris,1975,P.380   

([7]) للمزيد ينظر سيمياء براغ, مصدر سابق ص57.

([8]) لين اوكسفورد.تصميم الحركة,تر:سامي عبد الحميد,بغداد,دار الكتب للطباعة والنشر,1981,ص27

([9]) احمد زكي.اتجاهات المسرح المعاصر,الهيئة المصرية العامة للكتاب,مكتبة الأسرة, 2005 ص159

Comments are disabled.