اسم العمل: الى ذكرى صاحب صويحب.
المواد والخامات: أكريليك على الكنفاس.
قياس العمل: 150 × 200 سم.
سنة انجاز العمل: 2023

الرسالة التي لا تكشف عن مضمونها بشكل واضح ودقيق لا تصدر إلا عن كاتب هاو، والعكس بالعكس فإنها تصدر عن كاتب محترف، والحق يقال فإن قليل من الرسائل جليلة القدر من امتلكت قدرتها للكشف عن مضمونها، وأندر من ذلك تلك الرسائل التي كشفت عما يزيد عن مضمونها، فكلما كان المؤلف بليغا كلما كان النص بليغا كذلك، والعلة الأساسية في تصنيف الرسائل تكمن حتماً في فهم التراتبية المتوالية بين المرسِل والرسالة والرسول والمرسل إليه، بل ولا يوجد نص إبداعي إلا وهو مرتبط بهذه الأطراف الأربعة.

اثارتني الرسالة بشكل كبير جدا، وهي تؤكد حضورها في منطق العمل، تحديداً وهي تقابل صورة رمزية للإمام علي عليه السلام، كمرجع خفي، وفي السطر الأول، فقد أوضح هذا السطر من الرسالة باقي تفاصيل المضمون وبكل وضوح، فأي فطنة هذه التي دفعت نسق الخطاب لأن يبدأ من اليمين كما في كتابة المتون، حيث يتوالى حضور الرسالة مرة ثانية وثالثة وصولا لصورة علي بن ابي طالب في الزاوية، وكأنها تستقر في جدار الزمن البعيد، بل وكأنها أيقونة للزمن ذاته في متوالية الحكاية التي يريد مضمون هذا العمل الكشف عنها. وفي السطر الثاني نجد الشاعر الغريد مظفر النواب ملتفاً بمحنةِ محبتهِ وبصورته الحانية، كأي عراقي حين يلتف بـ(الشماغ) ساعة الوجع المكبوت، وكأنه للتو نوى تلاوة أبياته الشعرية في رثاء الشهيد(صاحب الملا خصاف)، ليكشف لنا جميعا عورة اللغة وقصورها عن بلوغ المعنى، فبأي صورة شعرية يمكن الإحساس بالأنين الأبدي، ذلك الذي وسمت به أرواح الشهداء وهم يغادرون، في رحلة النقاء والطهارة البيضاء، حيث لا يليق بهم المكوث عند مقام غير مقام علي بن أبي طالب، كيف لا وهو الكاشف عن عورة اعتى الظالمين وعن عورة أعتى شجعانهم.. فجاء المشهد البصري وكأنه قيمة إبلاغية عميقة صُورت فيه الرسائل المتطايرة نحو جدار عتيق علقت عليه صورة علي بن ابي طالب، يتوسطهما شاعر العراق الكبير مظفر النواب في علاقة بينية.

الحزن الذي يخيم على القرية الباكية وأهلها المنتحبون، والسواد حين يحوم في التفاصيل، ليبدو كل شيء وكأنه مصبوغ بالأسود، فتغيب بهجة الحياة، ولذلك ينخفض الرأس وتغمض العيون، إذ لا فرق بين عتمة ما نبصر وعتمة عدم الإبصار، ولعل هذا ما يبرر النحيب، تبكي بشدة وتجري الدموع منهمرة وحارة علها تعيد بهجة الحياة والألوان المفقودة ثانية، إذ يقوم فعل الرسالة بوصفها خطابا بليغا على تأكيد خاصية التكرار في المشهد، وكأن الوجوه ذاتها والعيون الباكية ليست سوى مرآة لعكس ما في الضمير من انكسار وعتمة، ولا شيء يمكنه أن يظهر على السطح الإنساني أكثر قساوة من الحزن والبكاء، فهو يعيد خارطة الجسد ليبدو منكسراً في خط الزمن، ولا ادري لم ينحني الانسان محدودب الظهر حين يأتي الشهيد؟، ربما لأننا نحاول حصر الذكريات في الرأس، فنقوس كل شيء، ليحتضن كل منا ذاته، ونغلق كل انفتاحنا مع الحياة والآخرين، وهكذا نغلق حدقات العيون، حتى لا يبق لنا في دائرة الحضور من احد غيره، فالشهيد بطل يستقر في قرارة النفوس، وكأننا نريد إعادة احياء ذكراه مرة أخرى، ولعل ذلك الطفل الصغير المكور على صدر الشهيد في اللوحة دلالة واضحة لاختصار الكثير.

لقد عقد الرسام أمره في تصوير خبايا الانفعال بكل وقار وحكمة، وهو يصور تراجيديا المشهد وفق تراتبية ايقاعية خاصة، في الأشكال وفي الألوان وفي الظلال والنور، والناظر حين يقلب ابيات القصيدة(صويحب) يستمع وبهدوء لموسيقى تصويرية منسابة، ترتفع صاخبة تارة ليعلو صوت النساء المنتحبات، وتنخفض تارة أخرى لنستمع إلى ابيات مظفر النواب، الأبيات التي اختصرت بوضوح رحلة التحرر من الإقطاعية وأزاحت الجهل عن كثير من الفلاحين الذين نجهل أين يقيم أحفادهم الآن، فهذه الرسالة الإبداعية التي يعيدها الفنان المقتدر سلام جبار متجاوزة لمضمونها وكاشفة عن مقدرته الرصينة الفاعلة في إعادة الأثر إلى الاذهان مرة أخرى، وكأنه يردد(ميلن .. لا تنكطن كحل.. فوك الدم).

في الفن التشكيلي العراقي وفي ميدان الرسم العريق بتاريخه واسماءه تركزت في الذاكرة عدد كبير من الأسماء الفنية وأعمالهم الإبداعية كما هو واقع الحال مع الفنان الكبير سلام جبار، إذ استطاع أن يحفر وبقدرة عالية حضوره في المشهد، ليس رساماً فحسب، وإنما مفكرا في متون المواضيع، ليخط بفرشاته قصائد بصرية وصور شعرية، ليحدثنا جميعا عن ضرورة الفن الأبدية، كما بينها الشاعر الفرنسي جان كوكتو: أعتقد بأن الشعر ضرورة وآه لو أعلم لم هو ضرورة، والحقيقة أني حملت ذات السؤال وكأنه سؤالي أنا، إذ كنت أبحث عن إجابته في أنساق الإبداع المتغيرة، ولا زلت أجهل الكثير من مفاصل الإجابة، وفيما لو أبدلنا لفظة الفن في متن السؤال بدلاً عن الشعر، ليكون: الفن ضرورة…، فإن الإجابة تبدو متعسرة جدا، بل ولا تكفي بضع سنوات في الاختصاص للإحاطة بكل ما للفن من ضرورة في هذه الحياة. واعتقد بأن جملة من فناني العالم يشاطرون جان كوكتو الرأي.

د. أحمد جمعة زبون

Comments are disabled.