إزاء جدلية الخوض في غمار مقتضيات الألفية الثالثة وافتراضاتها في شيوع الرقمية وانتشار تقنياتها من جهة، وما تدعو إليه اشتراطات ما بعد الحداثة في تقويض سلطة المركز وتفكيك كل ما من شأنه الارتباط بمديات القواعد وثوابت الفكر التي تحرك السلوك الإنساني من جهة أخرى، فإنه يتوجب البحث عن أطر فكرية وآليات تمهد للانتقال إلى الرقمية، وما يتطلبه ذك من تغيير منهجي منظم في مجال التعليم بصورة عامة باعتباره الركيزة الأساسية لتغيير السلوك المعرفي، وفي مجال التربية الفنية باعتبارها الركيزة الأساسية الملتصقة بالسلوك الوجداني، ذلك المحرك الفاعل لكلا مجالي الخبرة ( المعرفي والنفسحركي ). وعليه، يعد هذا المقال مدخلا موضوعيا تأسيسيا لحيثيات موت مرحلة من مراحل التربية الفنية السائدة والمؤسسة على المعرفية، والإعلان عن أسس جديدة للتربية الفنية، ترتكز على نشر وتمكين الرقمية من كل أنشطتها، وبما يؤسس لمرحلة جديدة نطلق عليها التربية الفنية الرقمية .
الفئة المستهدفة: المنظومة التعليمية في قنوات التعليم العالي المرتبطة وظيفيا بمتطلبات سوق العمل والتي يطلب منها بناء الاعتمادات المنهجية وتحديد آليات التقويم ومعايير الجودة وبما ينسجم مع حركة العصر ومنظومات المعاصرة الفلسفية والتقنية.
أ- المسوغات (حتمية التطوير)
دعونا أولا نرسم المنظور الواقعي المرتبط بالأسباب التي تدعو إلى ضرورات التطور.
مسلمة 1: التعليم الأكاديمي إجرائيا هو مجموعة من المنظومات التي تسعى إلى تحقيق تغيير مقصود في الخبرة التطبيقية لدى طلبة التعليم العالي، وفق منهج علمي محدد مبني على أساس قواعد وأسس التفكير المنظم ويستجيب لكل المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية بهدف توظيف هذه الخبرة في سوق العمل وبما يضمن استمرارية الحياة.
مسلمة 2: إن حركة وإيقاع الحياة العامة في كل المجتمعات تؤثر وتتأثر بطريقة تفاعلية بالمتغيرات الفلسفية والتقنية الناتجة عنها، والتي تتطلب عملية رصد مستمرة لتضمن المحافظة على هذا الإيقاع وديمومته واستمراريته بكفاءة.
مسلمة 3: من الاشتراطات الأساسية للمحافظة على كفاءة الأداء إجراء عمليات التقويم المستمرة بكل أشكالها ومدياتها.
مسلمة 4: لكي يكون التقويم مجديا وذا فاعلية مستمرة ويحقق أهداف النظام وبطريقة موضوعية متفق عليها فإنه لابد أن تكون مرتكزاته معايير واقعية تستمد كينونتها من تطور فلسفة المجتمع وإيقاعه وأدواته.
ثمة تساؤلات تتحرك في فضاء المسلمات السابقة تؤسس لإشكالية موضوعة البحث في واقع التربية الفنية، تمهد جدلا لسبر موضوع مواكبة التربية الفنية لاشتراطات التطور العلمي قبل موضوع مواكبتها للتطور العالمي ذاته، تتضمن هذه التساؤلات مشروعية المقارنة بين ما هو موجود وما يجب أن يكون عليه استنادا إلى معطيات المعاصرة وما فرضته مديات الغزو التقني والمعلوماتي الذي فرض نفسه على كل مفاصل الحياة؟ وهل يمكن لمناهج التربية الفنية المعتمدة على توصيف وفلسفة المصطلح إعداد مخرجات تستجيب لمتطلبات الحياة العامة التي
بدأت السبرانية تشكل نسبة كبيرة من مفرداتها بغض النظر عن المكان ونوعية المجتمع؟
الحقيقة أن دراسة الواقع العام للمناهج الدراسية يكشف عن سيادة الجانب التنظيري والاستيلاء الثقافي المعرفي على حساب الجانب التطبيقي، ما خلق فجوة بين هذا الواقع ومتطلبات سوق العمل فضلا عن أن العديد من المواد الدراسية لازالت غير خاضعة لاشتغالات التقنية بإطارها المعاصر والتي أصبحت حاجة ملموسة في كل مجالات الحياة لاسيما الثقافة والتعليم. أضف إلى ذلك أن العديد من المواد الدراسية لازالت مؤسسة على قواعد أخرج العديد منها من الخدمة المعرفية وحلت محلها أسسا وقواعد مستنبطة بموجب ما فرضته التقنية والمعلوماتية ونظريات تجسير وربط الخبرة ما بين نظريات الاتصال ونظريات التعلم، وما تبع ذلك من شيوع مفاهيم جديدة في عملية إيصال الخبرة واكتسابها ترتبط بمفاهيم التعلم والتعليم الاستراتيجي في مقابل أفول مفاهيم الطرائق والأساليب القديمة وشيوع مفاهيم التعليم الإلكتروني في مقابل التعليم الصفي التقليدي.
إن مثل هذه المتغيرات تفرض إعادة النظر كليا بالمتطلبات التي يتطلبها إعداد جيل غادر بمجمله استخدام الورق والاعتماد على الذاكرة الأيقونية للأشكال التقليدية وغادر تاريخ الكهوف وأصبح جلّ اهتمامه يتركّز على تشغيل مصطلح (sandwich instructional) وتشغيل التقنية وتوظيف المعلوماتية في كل تفصيلاته بما تتيح له الرفاهية في الجهد والوقت. والحق يقال أن عملية تكديس البيانات بالطريقة العشوائية وتجميعها دون تمحيص في الذاكرة بات يستهلك المخزون الأكبر منها، ويهدد بتعطيل استقبال الأفق الفني الرقمي ويهدد بشيوع مرض الزهايمر في بيئة المعاصرة في مقابل شيوع الذكاء الاستبقائي للخبرات الفنية ذات الطابع السلفي المنتمي الى القرون الوسطى.
– المنطق الافتراضي :
دعونا نبسط موضوع بناء المواد أو المقررات الدراسية من خلال افتراض أوّلي يدعو إلى أننا نريد تقديم خبرة علمية من خلال مادة دراسية، وهذه المادة الدراسية تسمى (منهج ) بالمفهوم العام والمنهج يُبنى على أهداف، والأهداف تُبنى على أساس توصيف للمفهوم، والتوصيف يستل من الفلسفة العامة لحركة المجتمع…
واقع التربية الفنية
– السؤال :
إلى متى سيستمر التعاطي مع توصيف التربية الفنية على أساس كونها توظيف التربية في تعليم الفن؟ أو توظيف الفن في إكساب القيم التربوية ؟ أو على أساس كونها متغيرا تابعا يتذيل المعارف والخبرات؟ ماذا لو عرفنا أن عدد المتقدمين للقبول المباشر ( على أساس الموهبة ) بلغ 3000 ألاف متقدم إلى الفنون في إحدى الجامعات ؟ وأن حصة التربية الفنية تربو على 1000 متقدم؟
الإشكالية الكبيرة هي… هل إن القيم نفسها لازالت تسمى قيما؟ وهل لازالت تخضع من حيث التوصيف لنفس المقاييس إزاء المطر التقني المنهمر في خلايا الحياة ؟ ما أحوجنا اليوم إلى تربية فنية تنسجم وقدرات الطفل الذي يتعامل مع المحمول بتفاعل كبير وهو لازال ابن 6 أشهر.
ب- سلسلة تاريخ التربية الفنية
- المشق والاستنساخ ( التربية الفنية مختزلة بالرسم )
- النقل من الطبيعة ( التربية الفنية مختزلة بالرسم )
- التعبير الحر( التربية الفنية مختزلة بالرسم )
- التربية الجمالية ( التربية الفنية مختزلة بالرسم )
- التربية من خلال الفن ( التربية الفنية مختزلة بالرسم والأشغال اليدوية )
- التربية الفنية المعرفية ( التربية الفنية مختزلة بالتنظير وجزء يسير يرتبط بالإنتاج الفني وبالجانب التشكيلي في أغلبها )
أما طرائق تدريسها فلا تتعدى المساحة البيئية المحددة بالصف الدراسي
ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه والحمد لله ملأت رفوف المكتبات بالاستراتيجيات والبرامج الحديثة المطبقة على مجتمعات بحثية لازالت تدرس تاريخ الكهوف والشفافيات، ولازالت تدرس الألوان الأساسية والثانوية الزيتية والمائية وتعلم الطلبة أعمال الورق وأشغال المكرميات والحبال وغيرها… مما عمق هوة الاغتراب العلمي.
الواقع وللأسف يكشف أن توصيف التربية الفنية ومناهجها وطرائق تدريسها وتدريبها وبحوثها لازالت بعيدة كل البعد عن المنطق الموصوف سابقا، وما ينبغي أن يكون عليه الواقع ما بعد كورونا ( كعتبة تاريخية للعالم المعاصر ) بعبارة أخرى فإننا بأمس الحاجة إلى توفير معايير خارجية تستخدم كمحكات نضعها نصب أعيننا في عملية توصيف التربية الفنية وبناء مناهجها وتقويم واقعها بطريقة تنسجم مع المنهج العصري الذي يستجيب الى مفهوم sandwich instructional
ج- محكات تقويم منهج التربية الفنية
يقصد بالمحكات نظام من الصفات العامة التي يتحدد في ضوئها شكل ومحتوى المنهج الدراسي، وترسم ملامحه التي سينعكس أثرها في مخرجاته ويتحدد على ضوئها مدى مقبوليته واشتغاله اجتماعيا واستجابته لمؤشرات ومعايير الجودة العالمية.
1- المعاصرة :
تعني نظريا، أنها مواكبة العصر ومعايشته، وتتحدد إجرائيا عند استعمالها كمحدد تقويمي بمدى استجابة المواد الدراسية شكلا ومضمونا لمتطلبات العصر بكل ما تعنيه الكلمة من مديات واشتراطات.
2- التقنية :
تعني نظريا، أنها مواكبة العصر ومعايشته والسعي وراء المعرفة بطرق ووسائل مغايرة لما هو سائد، وتعني عمليا أنها تطبيق المهارات والمعرفة، بالاعتماد على استخدام الأجهزة والمستلزمات والبرامج الرقمية وتقنية المعلومات والاتصالات واعتبارها ركيزة أساسية لتقديم الخبرة بما يمكن من زيادة فرص الوصول للخبرات بشكل أسهل وأكثر فاعلية، وتهدف إلى تلبية احتياجات الإنسان، وحل مشكلاته المختلفة وتغيير المجتمع بسرعة وفاعلية. وبعبارة أخرى فإنه يجب بناء مواد ومقررات دراسية تعتمد وتأخذ بعين الاعتبار التقدم التقني، وتستجيب له لكونها أصبحت واقعا فرض نفسه على كل مفاصل الحياة فلم يعد الكتاب المطبوع أكثر قيمة من الكتاب الإلكتروني وصارت تقنية استخدام (برامج البور بوينت و الفيديوهات التعليمية من الماضي)
3- حاجات المتعلمين :
تتضمن عملية بناء المواد الدراسية على وفق معيار الحاجات التي تحكم متعلما لغته وقدرته العقلية واستجاباته مبنية على مفاهيم مثل ( tedx ومنصات التعليم والمحاكاة والعروض التقديمية وعالم الديجيتال )، وهو المستهدف لكي ينقل خبرة معرفية ومهارية إلى أجيال ستكون ذاكرتها مبنية على الشرائح التي ستثبت في الدماغ وستكون مهاراتها مسخرة في بناء البيئة الافتراضية والرسم والتصميم الافتراضي وتقديم المنتج الفني عبر تقنيات الهولوكرام.
هل مناهجنا الآن تستجيب لـ: (الحاجات النفسية والحاجات المهارية لهؤلاء المتعلمين؟ وهل تتواءم مع قدراتهم العقلية؟ وهل تنسجم مع تطلعاتهم كمتعلمين ضمن بيئة تحركها المعاصرة والتقنية؟…) إن متعلمي اليوم وتبعا لإيقاع العصر وحركة الحياة يميلون إلى ما يسمى بمفهوم ال sandwich بالتعليم أي أن تكون الخبرة المقدمة سابرة ومحددة وبطريقة جذابة ومشوقة وفيها إثارة وتحدي وتساهم بتحقيق طفرة معرفية لديهم وتقدم بإطار تطبيقي، وليس اللجوء إلى خيارات (المراجع والمصادر ذات ال400 صفحة و10 أجزاء) والتي تكون خارج اهتمامات المتعلمين وتحديدا المواضيع المرتبطة بالتاريخ واجترار المواضيع المتعلقة به.
4- متطلبات سوق العمل :
من المسلم به أن العملية التعليمية تستهدف مدخلات تعمل على إعدادها لأن تكون مخرجات تُلبي متطلبات سوق العمل “مؤسسات المجتمع”
إزاء ما تقدم، فنحن في عصر الرقمية، لذا فإن التربية الفنية الآن يجب أن تسمى ( التربية الفنية الرقمية ) والتي تعد تأسيسا لمرحلة جديدة من مراحل التربية الفنية ونعلن موت التربية الفنية المعرفية والأطر التاريخية الداعية للتمسك بالتاريخ وإعادة إنتاجه سلفيا… لأن مناهجنا باتت مثقلة جدا بالماضي في الوت الذي بدأ الحاضر يضيف كمّا كبيرا من الخبرات الرقمية التي باتت تهدد البشر بالإقصاء…
وأقترح هنا مواد دراسية تستجيب لمفهوم التربية الفنية الرقمية لها من الأثر ما سيعمل على إعداد متخصصين مملوئين بالتطبيقات العملية المولودة من رحم العصر وتستجيب لخصائصه، منعا للاغتراب العلمي. ومنها:
الرسم الافتراضي – التصميم الرقمي – الخط الرقمي – الأعمال اليدوية الرقمية
الكرافيك – التصوير الفوتوغرافي- الطباعة ثلاثية الابعاد – مشاريع الإنتاج الرقمي
برمجة التعليم – تقنيات التعليم الرقمي – نظريات التعلم والتعليم الرقمي – الفن المعاصر- تذوق الموسيقى الاليكترونية – الاضاءة الرقمية – الهولوكرافي والهولوكرام – البيئة الافتراضي – المتحف الافتراضي – علم الجمال الرقمي – مناهج التحليل والنقد الرقمي – الدمى و الانيميشن – معلوماتية الفن – وسائل التواصل الرقمي – القيم الرقمية – استراتيجيات التعليم الرقمي.