الإيقاع العام والخاص في الفنون المسرحية

إن أية نظرة شاملة للكون, و لكل موجوداته السماوية والأرضية, بدءا من أدق التفاصيل وانتهاء بأعظمها, تظهر ان هناك نظاماً إيقاعياً يحكم مظهرها وحركتها.حيث يرى (ديكارت) و(وليبنتس)” أن ما في الكون انسجامًا عقليًا مجرداً وتناسبًا في العلاقات بين الظواهر وهو الذي تتمثل فيه أعظم الآيات الإلهية”([1]).

وتعرف الدكتورة ماري الياس وحنان قصاب ” الإيقاع بمعناه العام من مكونات الظواهر الطبيعية والحياتية ,وهو من العوامل التي تلعب دورا في خلق الإحساس بالزمن, ولا يمكن إدراك الإيقاع بشكل مجرد, وإنما من خلال عناصر تتواجد في الطبيعة, تعاقب الفصول الأربعة والليل والنهار وصوت الموج”([2]). إذ يعد الإيقاع عنصراً أساسياً في تشكيل منظومة الحياة والطبيعة ,وهي تسير على وفق نظام إيقاعي إذ يرى أرسطو” أن الطبيعة تعمل متعاقبة وفقا لنظام محدد”([3]) وهذا النظام هو الذي يحدد مسار الكواكب والإجرام في محاضن السماء ودوران الأرض حول الشمس, فهذا الانسجام بين الكواكب والإجرام يظهر أن هناك نظام من التوازن الإيقاعي يحكم عدم الاصطدام ,وهذا النظام تنتظم به مجسات الانسجام وحركة الكل مع الأجزاء, دون إن يحدث أي نوع من التنافر, ويتحكم بالنظام الكامل مجموعة من القوانين, أبرزها التكرار, وهو قانون الإيقاع الأعظم,التوازن ,التناسب ,الترتيب ,التنويع. إن الإيقاع ليبدوا واضحا في كل مجريات الكون “حيث يمكننا أن نقول أن هناك إيقاعا مستمرا للتداخل ما بين القطبين”([4]) الليل والنهار وكذلك الشمس والقمر والكواكب والمجرات وفي حركة المد والجزر في مياه البحار,وفي حركة أمواجها وفي حركة الأشجار عندما تضربها الرياح, فهذه الحركة وهذا التعاقب يولد ديناميكية منظمة تحكم عملها بإيقاع محكم بكل خصائصه ,وهذه من علامات قدرة الخالق (جل وعلا) ,حيث جاء في الكتاب الكريم(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)([5]). فالقران الكريم أشار إن الموجودات في حركة وان هذه الحركة ليست عشوائية, وهي هادفة وإنها هي بذاتها وسيلة توصل إلى غاية, كما تشير الآية إلى المدارات وإيقاعها الكونيفالحركة نفسها متواجدة في الحياة وسابقة للكلمة بملايين السنين”([6]) .أن الإيقاع حقيقة كونية أدركها الفيلسوف اليوناني (فيثاغورس) حيث قدم نظرية علمية مفادها” وجود علاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر الذي تصدر عنه النغمة عندما تتذبذب”([7]) وهذا المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيون عندما تسير أصابع أيديهم على أجزاء الأوتار المخصصة لحركة الأصابع في الآلات الموسيقية,  ولكن الأهم من ذلك هو” العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر التي يمكن التعبير عنها بنسب رياضية معينة فإذا قصر الوتر إلى نصفه تصدر نغمة الجواب  –الصوت الثامن في السلم الموسيقى-وإذا قصرت الوتر إلى 2/3 كانت النغمة هي الصوت الرابع”([8]) وهذا يعني إن الأصوات الرئيسية في السلم الموسيقي يعبر عنها بنسب رياضية ثابتة أو بعبارة أخرى أن التالف والتناغم هو حقيقة رياضية, ومن ثم فان ما نجدة في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي ومن انضباط ودقة تعبر عنها القوانين الطبيعية الثابتة يرتد أخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة.

لقد أدرك العلماء الإغريق القدماء أن القوانين الطبيعية تسير على وفق نظام رياضي وان هذه القوانين هي عناصر جمالية فالجمال كما يرى ديمقريطس ” يكون في الكيان المتناسق والمتناظر وانسجام الأجزاء والنسب الرياضية الصحيحة والموسيقى”([9]). وما رأي الفلاسفة الإغريق ألا ما ينطبق على حركات الأفلاك وأنغامها لأنهم اعتقدوا أن الجسم أذا تحرك بشي من السرعة احدث صوتا هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير, فلا بد إن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات .وتتفاوت سرعة الأفلاك بتفاوت مسافاتها,كما تتفاوت في العود سرعة الاهتزازات بتفاوت طول الأوتار,فلا بد إن يكون في السماء انسجاماُ كانسجام العود وان كنا لا نشعر به فذلك لأننا نحسُها باستمرار .والصوت لا يشعر به ألا بوجود السكون .

وعلى وفق هذا المكتشف عند الفلاسفة الإغريق والفيثاغوريين تحديدا, فأنهم قد جعلوا العالم كله”  عبارة عن عدد وتوافق ونغم”([10]) .أي مقادير كمية ونسب يتشكل على أساسه علم الكونيات الجمالي, أن( فيثاغورس) برهن على أن عالم الأصوات محكوم بالأعداد الصحيحة,ومنه انتقل إلى العالم المنظور ,ومن ثم إلى الفلك,إذ أن حركات النجوم التي يمكن مراقبتها ,كان بالوسع حسبانها وإخضاعها للرياضيات,وقد تصور كبلر(KEPLER )*أن النسب الهندسية الرشيقة هي التي تسيطر على الكون وقد وجد ان الظواهر الشديدة التعقيد ذات بناء هندسي محكم ,وكان يؤمن أن الكون هو التوافق والاتساق الرياضي”([11]) فدوران الأرض وحركات الأجرام وضجيج البحر وصفير العاصفة وسكونها وتناقض جميع الثنائيات في الطبيعة إنما في جوهرها عدد وانسجام ونغم ويمكن للإيقاع أن يوحي بها أو يوحد بينها.

أن الإيقاع قانون رياضي في وجهته المادية وهو من ناحية جوهر الأشياء التي تدركها الحواس والشعور ,قوانين رياضية منظمة ,وان سر الجمال والتناسق في الشكل والحركة والمعنى ,إنما هو قائمُ على دقة الحسابات الرياضية المحكومة بجلال الخلق.



([1]) فؤاد زكريا . التفكير العلمي ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد3 (الكويت : مطابع السياسة, 1978), ص241.

([2]) د ماري الياس وحنان قصاب .مصدر سابق, ص85

([3]) ول ، ديورانت. قصة الحضارة ,ج2,م2,تر:محمد بدران, (بيروت: دار الجيل ,.ب,ت )ص498

([4]) بول كلي.نظرية التشكيل, ط,1 تر:عادل السيوي,(القاهرة:دار ميليت للطباعة), ص56

([5]) سورة يس الآية 40

([6]) ل واراك بنو.أشارات رموز و أساطير , ط1,تعريب :فايز كم نقش, ( لبنان :عويدات للنشر والطباعة …2001) ص13

([7]) فواد زكريا .التفكير العلمي ,مصدر سابق ص  107    

([8]) المصدر نفسه  ص108

([9]) عقيل مهدي يوسف .السؤال الجمالي ( بغداد :سلسلة عشتار الثقافية 2007 ) ص47

([10]) يوسف كرم .تاريخ الفلسفة اليونانية ,( بيروت: دار القلم, ,ب.ت) ص22

* كبلر:عالم فلكي ألماني يعد احد موسسي علم الفلك الحديث (1571-1630)

([11]) فواد زكريا .,مصدر سابق ص241

Comments are disabled.