السمات الفنية للرسوم الجدارية الفرعونية

zouher_sahebاننا نخطئ افدح الخطأ، اذا سخرنا من معتقدات الانسان في سعيه لتحقيق وجوده، بقوة وفاعلية اللغة والصورة والحركات الايقاعية الجماعية وما شاكلها. فهو المؤسس لقوانين الطبيعة، وكشف العلة والمعلول، واقامة عالم واعٍ تؤلفه الرموز والكلمات والمفاهيم. وكل ذلك كامن في صميم المطلب العقلي الذي يسعى الى ادخال هذه الكثرة التجريبية في مفاهيم النظام او النسق، ذلك ان فكرتنا التحليلية التركيبية لنظام الصورة في الرسوم الجدارية المصرية، تهتم ببناء فكرة عقلية تتكفل بتفسير البنية الكامنة وراء التمظهرات المرئية السطحية لبنائية الرسوم.

وباقتراب دراستنا التحليلية لمنطقة الدوال في الرسوم الجدارية المصرية، وفي محاولتنا ادخال كثرة الفكر التجريبية في مفاهيم النظام او النسق، معتبرين خصوصية الشكل النظامية، هي قبل كل شيء عملية تحليلية تركيبية واعية لنظم العلاقات، تجتهد فيها الذات لخلق نظام تركيبي يفسر خلاصة الخبرة البشرية. تقف ظاهرة شكلانية التشابه بين السمات الفنية المميزة لبعض الاشكال في المدرسة المصرية للتصوير، مع اتجاهات الحداثة. ذلك ان الاسلوب المتبع في رسم الاشكال البشرية يقع في منطقة التكعيبية والاشكال المركبة من صفات متعددة مثل ابو الهول مثلا تقع ضمن المنهج السريالي في اتجاهات الحداثة وهكذا .

ومع وجود مثل هذه الاشكاليات في السمات الاسلوبية المميزة لنظام الصورة في الرسوم الجدارية المصرية، فسنولي اهتمامنا اولا الى اشكالية الفضاء، فكما اسلفنا سابقا، كانت مشاهد الرسوم توزع من الناحية الموضوعية، الى موضوعات حياتية تشغل القاعات الخارجية للمعابد والمقابر، في حين تحتل المشاهد الدينية اعماق القاعات الداخلية. وفي دراسة نظام علاقة التكوين بالفضاء، نجد ان المشاهد في البيئة المكانية المحددة لها تتصف بصفة التقطيع لنظام الدراما في سياقات رواية الحدث، فكل جدار من جدران غرفة المعبد يحتفظ بمشهد محدد، وليس له علاقة سياقية في السيناريو مع الاحداث المصورة على الجدران الاخرى، نوعا من فقدان العنصر النظامي المهيمن في سياقات الصياغة التي تجمع الفكر موزعا على نظامي العمارة والتصوير. ذلك ان السمة الاسطورية والاسترسال وموسيقى الاتصال التي تميز مشهد (البانثيانة) للنحات فيدياس في معبد البارثنون، بايقاعها وتوازناتها وتوزيعها الصوري وهيمنة الفكرة الايقاعية عليها والتي تظهر كذلك في مشهد يوم الدينونة للنحات (مايكل انجلو) في كنيسة السستين، لا نجدها في نظام التكوين في الرسوم المصرية، ذلك ان الفكر المصري المفعم بالقلق الميتافيزيقي، كان مهتما بنقل صورية الحياتي والديني بانتقائية واعية، كي يزدان المكان بجميع موضوعات الصور، والتي ستؤدي دورها السحري بمثابة العوذ في عالم الابدية. فأضرحة المصريين لم تكن اضرحة ابطال، وانما اضرحة اناس عاشوا متعطشين لفكرة الخلود والابدية.

وفي نظام الانشاء التصويري الذي يميز التكوينات، يهيمن الموضوع على السمات الشكلية المميزة للتكوين. ففي الموضوعات الدينية ذات الطبيعة التعبدية والصفة اللاهوتية، يسود نظام الانشاء التصويري المغلق، حيث يحتفل المشهد بنوع من التقابلات المتوازنة، المفعمة بميتافيزيقيا الحدث حيث تكرم الالهة من قبل نائبها الارضي (الملك الإله) ويتركز الروحي في لغة الحوار الجدلي في منطقة وسطى بين الارضي والسماوي. في حين ينفتح نظام الانشاء التصويري، بنوع من الحركات الرومانتيكية، التي تميز مشاهد الصيد والمعارك الحربية. وفي مشاهد اخرى، يعتمد الفنان على تقطيع سطح الصورة الى عدد من الحقول الافقية المتتالية، وهي بمثابة سيناريو لادخال عامل الزمن في روائية الحدث. وقد شاع هذا الاسلوب في سمات الانشاء التصويري في النحوت والرسوم الرافدينية. ومرد ذلك يستند الى آليات عمل الصورة الذهنية في روائية الحدث، ذلك ان الفنان يعمد الى تمثيل الحدث وفقا لما يعرفه عنه وليس وفقا لما يراه بالمراقبة البصرية المباشرة، أي انه يعتمد على الصورة المترسخة في خزينه الذهني وليس ما يراه او يبصره، فيعمد الى صياغة نوع من التجريدات الفكرية في الروائية لم تألفها انظمة الصور الفوتوغرافية.

ولعل من اهم السمات الاسلوبية المميزة لمدرسة التصوير المصرية، هو تغيب المنظور، أي ميله الى التسطيح واغفال المنظور (البعد الثالث) في رسومه. فقد كان يمثل الاشكال القريبة من النظر بنفس حجوم الاشكال البعيدة عن النظر. وكان يغير في حجوم الاشكال البشرية وفقا لمنزلة الشخصية الاجتماعية ودورها المهيمن في روائية الحدث دون مراعاة لأية قواعد بصرية داخل التكوين. فكان يمثل اشكال الآلهة والفراعنة والنبلاء مثلا باحجام كبيرة جدا تحتل مساحة كبيرة من المشهد، وتطغي على الشخصيات الاخرى، كما انه اعتاد وفقا للقواعد الكهنوتية، ان لا يجاور بين البشري والالهي في مشهد واحد، لذلك احتلت اشكال الآلهة مساحات مخصصة لها دون ان يزعجها تطفل البشر.

وتظهر صور الاشياء المادية المكدسة داخل السلال او التي وضعت في الغرف، كلها واضحة للعيان، دون ان تحجبها عن النظر متانة الجدران. ويمكن ملاحظة غياب ظاهرة التراكب الشكلي، بشكل واضح في الرسوم الجدارية المصرية، دون تحجب الاشكال القريبة الى النظر البعيد منها. وحين يخطو البشر كانت الساق البعيدة عن النظر هي التي تتقدم دائما في سياقات الاداء الفني لرسم الاشكال. واذا صور بركة مائية محاطة من اربع جهات بصفوف من الاشجار، اظهر صفوف الاشجار وكأنها اشعة تنبعث من نقطة مركزية في الوسط هي بؤرة المشهد. واذا رسم سمكة رسمها ممثلة من الجانب. واذا ظهر التمساح او العقرب في احد المشاهد رسمه من لقطة جوية. وحين يسمو به الخيال، في تمثيل مشهد صيد في بركة مائية، فانه لا يكتفي بتصوير مجموعة من الرجال يؤدون فعالية الصيد، بل انه يعمد الى توضيح ما تحتويه البركة المائية من مفردات موضوعية، فيمثل الاسماك وافراس النهر والتماسيح ساعية تحت الماء، دون ان تحجبها عتمة سطح المياه الكدرة.

566-faraenهذه التجريدات وغيرها، والتي تجد صداها ايضا في السمات الاسلوبية للفنون الرافدينية، وتظهر ايضا في بعض رسوم الفنان الواسطي (العصر الاسلامي) متأتية كما ذكرنا، من ماهية آليات عمل الصورة الذهنية للفنان، والتي تميل الى العفوية والتلقائية والمصداقية الكبيرة في رسم الاشياء والظواهر، فبدلا من المراقبة البصرية، وخصوصا التقيد بما تراه العين من محدودات كان الفنان من ارض الرافدين ومصر وفي التصوير الاسلامي كما اسلفنا، يميل الى تمثيل الاشياء والظواهر، بناءا على ما يعرفه عنها وليس كما يراها. يؤديها وفقا لحقيقتها ودورها في الحدث المتذكر في الذهن والكامن في الخزين الذهني، بدلا من قوانين الفوتوغراف التي تكرر وتستند الى المراقبة البصرية. والامثلة التي اسلفناها تؤكد ذلك، واذا عزلنا صفة القصدية في تحليل وتركيب نظم العلاقات التي تميز الاشكال، فان هذه السمة الاسلوبية في الفنون القديمة تشترك مع رسوم الاطفال، ذلك ان الطفل يؤدي لون الشجرة اخضر حتى لو كانت الشجرة حمراء اللون، وحين يرسم النهر، تظهر الاسماك واضحة بين موجاته. ذلك ان حقيقة الشجرة اللونية وتعالق وجود الاسماك مع مياه النهر، هي الحقيقة العظمى، التي لها صفة الفضيلة الآمرة في الخزين الذهني الصوري الكامن في تفكير الاطفال. ولقد تحدث فنان القرن العشرين (بول كلي) عن مثل هذه النقائية العظيمة في مثل هذه الرسوم، حين وصف رسوم طفله (فيلكس) بكونها اجمل واعظم من رسومه، واصفا اياها بالبساطة والنقاء، وهي افضل من رسومه كونها لا تمر من خلال مختبر الدماغ.

ان دراسة تحليلية تركيبية لمشاهد الرسوم الجدارية المصرية، ستظهر ان هذه النشاطات التشكيلية هي تركيبات واعية، تسيطر بها ذهنية الفنان على اعادة وتنظيم نظم المكونات، على وفق انساق محددة في بنيته الذهنية، القائمة على مرجعيات معرفية، ترتبط ببنائية الفكر كما وكيفا. ذلك ان الوعي والقصدية والخبرة الجمالية في آلية عمل الذهن، كانت تنطلق مما هو ذاتي واجتماعي وروحي. ذلك ان العقيدة الدينية المصرية في زمانها ومكانها، تتحدث عن اشكال فنية قد لا تكون موجودة دونها، فبنائية الصور المصرية التي نعجب بها اليوم، والتي لم تمت بموت الايديولوجية الفكرية التي اوجدتها، تعني لنا اكثر من موضوعات وحجوم رتبت بنظام معين، انها اعمق تجارب لنا مع الفن.

وازاء ما تقدم، يظهر ان نظام الصورة للاشكال البشرية في التمثيل الفني، كما هو كائن في الرسوم الجدارية المصرية سواء اكان يمثل رمزا ميتافيزيقا يتصف بمسحة إلهية نحو مقام المثال، ام حاكما تعاظمت صورته الارضية، ام بشرا كتب عليه ان يؤدي الطقوس العبادية دون تقصير في محراب الاله. ان هناك نظاما واحدا لبنائية الشكل، وهذا النظام هو افراز من  افرازات البنية الثقافية المصرية. ذلك ان دائرة البنية الثقافية المصرية المغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها، تعمل بها مكونات الفكر في تفاعل حيوي لما من شأنه ان يفرز انساقا ونظما تعم عالم التشكيل. فالتفاعل بين ما هو ميتافيزقي وما هو مايثولوجي وملحمي وما هو سوسيولوجي يرتبط بقداسة الفن، هذا الكم والكيف من العناصر الضاغطة داخل دائرة البنية، وافرزت انظمة سلوك، وفي الوقت نفسه افرزت انظمة تشكيل، قبلتها الذات البشرية الجمعية، دون أي قهر او ضغوط بوصفها نوعا من الفضيلة الآمرة ومثالا للكمال، ونظاما للشكل في مثاليته العليا الموقرة.

سعى الفكر المصري في نظام الاشكال الالهية والملكية والبشرية الى تحطيم الصورة الايقونية، وبقصدية تبغي توسيع نظام العلامة الرامزة والكامنة في بنائية العلاقة بين الدال والمدلول، وذلك بالانتقال بالشكل الطبيعي من صورته العرضية الى شكله الجوهري الخالد، الذي يبغي العموم واللامحدود في دلالة الرمز. وفي ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع لكشف المضمون الباطني للحقيقة، ذلك ان الفنان كان يحرر الشكل الانساني من حالته البشرية ويوحد مع اشكال الالهة، لتوضيح تمظهر الانسان بمسحة الهية، ويحرر الالهي من غيبيته الى دلالة محسوسة، حيث تدعو الحاجة الى التحرر من الانموذج، وصولا الى البناء الرمزي الخالص في مخاطبة القوى الماورائية التي يصعب التكهن بطبيعتها، في بنية مترابطة تخضع لقوانينها ونظمها الخاصة. وتستند الى كم متداخل من العوامل السايكلوجية والمايثولوجية والحاجات والمتطلبات الاجتماعية ذات الطبيعة الروحية. باعتبارها تمثلات هذه المدلولات او اشارات او تلميحات اليها.

ونظام الصورة الاكثر دقة في سمات الاشكال البشرية في الرسوم الجدارية المصرية هي ارتباط الشكل الجانبي للوجه مع الصورة الامامية للعين والوضع الامامي للصدر بالهيئة الجانبية للساقين. وقد علل (هربرت ريد) ذلك : “ان الفنان كان يمثل اكثر الجوانب تعبيرا في كل عنصر من عناصر الشكل”. بينما يرى (ارنولد هاوزر) ان سبب ذلك يعود “الى ان الفنان كان يمثل ما يعرفه او يفهمه عن الاشياء، بدلا من تمثيله الاشكال كما تراها العين مباشرة”.

ان فحصا دقيقا لمحتوى النص، لكل من ريد وهاوزر حول هذه الظاهرة، يوحي بشيء من توحد الفكرة بينهما، شرط توحيدهما معا. فأوضاع الاجزاء الاكثر تعبيرا في نظام الاشكال البشرية هي اكثر الاشياء ترسخا في بنائية الصورة الذهنية للفنان، حين يحرر نظام الشكل بما يتفق مع النزوع الذهني للفنان، ويحمل الشكل اقصى طاقاته تعبيرا. فاعطيت الحقائق الطبيعية تفسيرات عقلية، ورفع العضوي بموجبها لمستوى الفكر، فاكتسبت مثل هذه الاشكال دلالات روحية في صميم بنائية الفكر الاجتماعي.

ان فحصا تحليليا تركيبيا لنظام الشكل، سيجد ان هذه التكعيبية البيكاسوية المبكرة التي تلتقي مع نظام الاشكال في الرسوم الجدارية المصرية، تقوم على الادراك الذهني لمواصفات الشكل، بالشكل الذي بدت به للفكر وبالصورة الاكثر تعبيرا. فالفكر حين يستدعي الصورة في خزينه الذهني المعرفي، يتمثلها بنظامها المعرفي الكامن في تركيبته الذهنية، وكمـا هي في حقيقتها وخصوصياتها كعلامة عرفية. وعلى منوال ذلك يرسم الابهام في كفي اليدين بوضع الايمن في الاشكال البشرية في الرسوم الجدارية وغير ذلك من الامثلة الكثيرة.

ان مظاهر الاختزال والتبسيط التي تميز هذه التركيبات او التأليفات الشكلانية، مردها الى ان الوعي والقصدية في آلية عمل الصورة الذهنية للفنان، لم تكن خوضا في تفاصيل الاشكال المرئية، بل ترجمة للمعنى ونقلا للفهم. وذلك يبرز في نظام الشكل، بتمثيل الدائم والعام والخاضع لقوانين ثابتة، وهو النظام الذي لا يبغي تفريد العام ليعبر عن المفاهيم السامية. وهو مفهوم يخرج بالمادي الى حيز مثالي رفيع، بقوة معتقد وقوة نهوض اجتماعي. ولعل ذلك يفسر الانتقال في النظام الشكلي، من صورته العرضية الى نظامه الجوهري الذي يبغي العموم بالرمز. وهكذا يكون العمل الفني الوسيط، بين التمظهرات الطبيعية، وعالم الموجودات الروحية، في تفاعل حيوي بين الشيء وجوهره والدال ومدلوله. ونتيجة استقرار مدلولات مثل هذه الاشكال الرمزية في الذهنية الجمعية، ان ترتقي الى نظام العلامة الاصطلاحية، ويبقى الناس متشبثين بها، ويغلبهم ازاءها التوقير والاحترام.

تركب فعل عملية التعبير في الرسوم الجدارية المصرية، انطلاقا من الاشياء المرئية ذاتها، بل من الذاكرة التي تتخطى ظواهرها الخارجية، ولا تحتفظ الا بملامحها المعبرة عما هو اساسي وجوهري في هذه الاشياء، أي ان ما يهمهم بالدرجة الاولى هو ان يعيدوا للموضوع لا صورته الظاهرية، بل محتواه اللاعقلاني، الذي يفسر وينتقل الى المشاهد من خلال هذه الصورة الظاهرة. ولتثبيت هذا المحتوى اللاعقلاني كان لابد في نظرهم، من اعتماد الالوان الصافية في مساحات كبيرة، والخط الذي باستطاعته التعبير عن قيم روحانية. ولتحقيق هذه الغاية بوساطة اللون والخط، كان لابد من تصوير الاشياء لا كما هي في الطبيعة، بل كما يتصورها الفنان وتبعا لقوانين التمثيل الداخلي، أي لابد من اعادة صوغها، لا نسخها بشكل يوحي بالموضوع دون التقيد بمظاهر الواقعية، ومن هنا لابد من التأويل والتحوير الذي سيلجأ اليه الرمزيون والتعبيريون وغيرها من اتجاهات الفن الحديث.

وازاء تغيب محاكاة تعقيدات الطبيعة، وجد الفنان المستند الى الروح الجمعية، ان بامكانه قلب العالم الخارجي باتجاه العالم الداخلي، وطرح الحلول المبنية على تركيبات لونية، منفصلة عن أي تمثيل صوري، وهي بنائية تقود نحو التبسيط في الاشكال والمساحات اللونية، والاتصاف بالتسطيح والتخلي عن التدرج اللوني والمظاهر القصصية، وصولا الى اللون اللاصوري المستقل، الذي سيصبح بعد ذلك هدفا بحد ذاته لعدد كبير من فناني القرن العشرين .

566-faraenaتتميز الصورة في الرسوم الجدارية المصرية، باستخدام نوع من القواطعية حين تتخلل الخطوط المميزة بشكل واضح مساحات اللون، نوعا من التركيب بين الشعور البدائي والعقلانية وتحويل سطح اللوحة الى مسطح ذي بعدين، حيث لم تخضع الالوان للقوانين البصرية، بل تحولت الى ظاهرة عقلانية، الى ابتكار اصطلاحي. ذلك ان الاسلوب التصويري، يقوم على تجزئة وجوه الشاشة التشكيلية، وعلى الاهتمام بالخط في تحديد الاشكال والمساحات، ذلك ان اللون الخالي من الكثافة وفيزياء الضوء والظل على سطح الجدارية، لا يجسد وحده ملامح المدى التشكيلي للصورة وقيمها، فهو يشترك ويتعامل مع الخط في تحديد المساحات اللونية باعتبار النظام الصوري بأجمعه ترجمة تشكيلية للفكرة، فكرة سلمية ومثالية، عالما مثاليا، في اشكال انيقة صافية والوان هادئة وتأليف ساكن، حيث الكمال والفضيلة، والذي هو بمثابة نداء نحو المجهول والعالم التخيلي.

 

وهكذا كان فن التصوير المصري، فكريا مجسدا للافكار، لان مثاله الوحيد هو التعبير عن الفكرة ورمزيا كونه يفسر هذه الفكرة بالاشكال، وتركيبيا لانه يشيد هذه الاشكال بوساطة العلامات، وذاتيا، لان الموضوع لا يعتبر كشيء بحد ذاته، بل كاشارة لفكرة مدركة من قبل الذات الجمعية، وزخرفيا مزدحم بالنصوص الهيروغليفية التصويرية الملونة، كون التصوير الزخرفي، كما فهمه المصريون، ليس شيئا اخر سوى تظاهرة فنية ذاتية، جمعية، رمزية وفكرية، تبغي تحويل الطبيعة الى مثال، بادخالها ضمن اطار رياضي صوفي.

ويجد الجمالي تجسده في ميتافيزيقيا الخطاب التداولي، الذي تبثه الذات الجمعية، في الرسوم الجدارية المصرية. ذلك ان مدلولات الصورة ترتبط باللامحدود والمطلق، بحضور الالهي بصورته المتجلية المحسوسة، وبالافكار الرمزية والتجريدات الادبية الدينية الباطنة خلف الظاهر في بنائية الصورة، وبالدور الوظيفي الروحي لانظمة الصور، فهذه المنظومات الصورية كان عليها ان تشيد كينونة عالم الابدية وتفصح عن معالمه، فيتحرر الجمالي عن واقع الضغوط السايكلوجية، التي يبثها الروحي في سايكلوجيا الذات الجمعية.

ويثبت الجمالي حضوره ايضا، في بنائية الدال، بدء بالتشييدات التقنية لممارسة فن الرسم وتمسرحاته وتأكيداته، وصولا الى دلالات الاشكال الرمزية، واصطلاحية اللون والخط الذين يعملان في منطقة المتخيل خارج مساحة التكوين العينية. ذلك ان الخبرة الجمالية في بنائية انظمة الرسوم الجدارية المصرية، هي نتاج نظم من العلاقات المترابطة ذات التفاعل الجدلي، والتي تحرر وجودها من خلال هذا التعالق ما بين حضور الروحي بجلاله المهيب، وقدسية البيئة المكانية التي احتضنته، والانفعال السايكلوجي العبادي، ازاء نيل البشري جنة عدن الموعودة.

وتواجه الفكر المعاصر، اشكالية من التمظهرات المتشابهة، بين النظام الشكلاني للصورة في الرسوم الجدارية المصرية (الاشكال البشرية) وسماتها الشكلية في اتجاهات الفن الحديث. وبالاخص النظام الاسلوبي للصورة التكعيبية. هذا النوع من التعالق في نظام الاشكال يستند الى نوع من التلاقح الحضاري، الذي افرز بدوره مثل هذه الاشكالية، حيث ادت الاشكال في الجداريات المصرية، دور المحفز في آلية عمل الذهن لدى مبدعي الصور التكعيبية في الفن الحديث .

ان قراءة مسؤولة ذات طبيعة معرفية تحليلية تركيبية لنظم العلاقات التي تميز هذا النوع من التجريدات، ستظهر تباين انظمة البنية العاملة في الثقافة المصرية في زمانها ومكانها، عن البنية الثقافية الحداثوية، ذلك ان العناصر الفكرية الضاغطة في بنية الثقافة المصرية، يمكن تشخيصها بانظمة مايثولوجية وسوسيولوجية وميتافيزيقية، تمثل بدورها المرجعيات الكامنة في بنائية الاشكال في الرسوم الجدارية المصرية. تقابلها انظمة ثقافية تتمثل بالطبيعة العلمية والمنطقية والجمالية في دائرة عمل بنائية الفن الحديث. هذا المتحول في انساق الاشكال وانظمتها، هو الذي قاد الى خلع الشكل من مرجعياته، ومن بنيته التاريخية، ليكون قراءة علمية تحليلية تركيبية تستند الى المعرفة كمقرر لنظام الصورة التكعيبية.

وفي كشف تحليلي تركيبي لأنظمة الاشكال المركبة، في الرسوم الجدارية المصرية، وكما هو واضح في اشكال الآلهة المركبة مثلا يبرز نوع من القصدية لتحطيم نظام الصورة الايقونية، كقيم بنائية مادية، متحولة لبنية فكرية تسقط الصورة الذهنية، ولكن كأيقونات ذات مغزى كوني، معمقة الدلالة في نظام العلامة، والكامنة في بنائية العلاقة بين الدال والمدلول، لتؤدي فعلها في تعدد الاشارة والتشفير في بنائيتها المايثولوجية والسوسيولوجية والسايكلوجية لهذا النوع من الدوال الرمزية. ذلك ان صلة التشابه المادية المنظورة، قد تم الاستعاضة عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز، حيث ترتفع المدلولات فوق الظاهرات الطبيعية المنفردة، وبنوع من التضايف بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي.

Comments are disabled.