المعابد الفرعونية

zouher_sahebكانت الصورة الذهنية للمكان عند المصريين القدماء ، هي صور مظاهر محسوسة ، تشير الى مواقع لها لون عاطفي ، وقد تكون مسالمة او معادية ، مالوفة او غريبة ، الا انها في جميع الاحوال ، خارج نطاق التجربة الفردية. تشعر الجماعة باستمرار بوجود احداث كونية معينة تضفي على المكان دلالات روحية ، مثلما يقرن الليل والنهار ، والشروق والغروب بالموت والحياة. وقد ينمو الفكر التأملي للمكان ويتطور حين يتناول المناطق التي لا تدركها التجارب الحسية المباشرة ، كالسموات مثلا او العالم السفلي. كما نرى في علم التنجيم عند قدماء المصريين ، الذي اسس نظاما واسعا من العلاقات والترابط ، بين الاجرام السماوية والاحداث الفضائية وبين المواقع الارضية. وهكذا قد لا يقل الفكر المصري القديم نجاحا عن الفكر الحديث في ايجاد نظام فضائي مكاني متسق. الا ان هذا النظام لا يقرر بالمقاييس الموضوعية ، بل بإدراك عاطفي حسي للقيم.

 

كان المصريون القدماء يقولون ان الخالق خرج من مياه الهيولي الاولى ، وأقام رابية صغيرة له من اليابسة يقف عليها ، هذه الرابية الاولى ، التي بدأت الخليقة عليها ، اتفق العرف على انها في معبد الشمس في هليوبوليس ، اذ يعتبر معظم المصريين الاله الشمس خالق الكون. ومع ذلك فان قدس الاقداس ( CELLA ) في كل معبد ، له من القدسية ما لغيره. وكل اله — بمجرد الاعتراف بألوهيته — منبع لقوة الخلق ، ولذلك فان لكل قدس اقداس ، في طول البلاد وعرضها ، ان تكون رابية الخلق الاولى متجسدة فيه. وكانت اسماء المعابد الكبرى في منفس وطيبة وغيرها من المدن ، تنص صراحة على انها الرابية الاولى. فلكل حرم صفة القدسية الاصلية التي لابد منها ، لانهم كانوا يعتقدون حالما يؤسسون معبدا جديدا ، ان امكانية القدسية في موقع البناء (المكان) قد تحققت وكشفت عن نفسها. وقد عبروا تعبيرا معماريا عن فكرة الرابية الاولى في ابنية المعابد فكان المرء يرقى بضع سلالم او يصعد مرتفعا عند كل مدخل يؤدي الى صحن المعبد او الى قاعة قدس الاقداس ، الذي كان مشيدا بارتفاع اعلى من مستوى المدخل.

ونحن لا نقبل مثل هذه النظرية ابدا ، فالمكان في نظرنا مستمر ومتناسق ، وكل موقع فيه معين دون لبس او غموض. فلو كنا نحن القائلين بالرابية الاولى ، لأصررنا على انه لا يمكن ان يوجد الا في موقع واحد ارتفع من حياة الهيولي فيه او تل اليابسة. غير ان مثل هذا الاعتراض لدى المصريين القدماء يعتبر من قبيل اللعب بالالفاظ. فما دامت المعابد والقبور الملكية مقدسة كالرابية الاولى ، ولها من الشكل المعماري ما يشبه الرابية ، فانها تشاركها في الجوهريات ايضا. ومن العبث الجدل فيما اذا كان لأحد هذه المعابد الحق اكثر من غيره في تسميته بالرابية الاولى.

كان الاله يمثل شيئا خطيرا في الكون ، كالسماء مثلا ، فهذا الاله من حيث وظيفته ، شديد الاتساع وغير محسوس. ولكن قد يخصص له مكان في عالمنا ، يجد فيه الراحة والطمأنينة ، أي ان يقام له معبد او هيكل ، وفي هذا المعبد قد يتجلى الاله بهيئة صورة او تمثال ، ليس التمثال بالاله ، ان هو الا وسيلة من الحجر او الخشب او المعدن ، تتيح له المثول للعيان. وقد قال المصريون ذلك ايضا في احدى قصص الخليقة ، فقد ناب الاله الخالق عن الالهة الاخرى ، وصنع اجسادهم وفق رضاهم. فدخل الالهة اجسادهم من كل نوع من الخشب ، من كل نوع من الحجر ، واتخذوا لأنفسهم بها شكلا. فهذه التماثيل المعبدية ، انما هيئت لتكون امكنة لهم يتخذون فيها شكلا محسوسا. وعلى هذا النحو ، يرتاح الاله امون ، حين يأوي الى تمثال في شكل انسان او كبش انتقي خصيصا له ، وهو يبقى على ذاته ولا يماثل الشكل الذي يظهر فيه للعين ، غير انه يتقمص كل مرة شكلا مختلف باختلاف الغاية من ظهوره ، كأنه انسان له منازل شتى ، واثواب متباينة ، ونحن بالطبع نقول ، ان التمثال او الحيوان المقدس قشرة جوفاء للاله ، مالم يحل الاله به حلولا ، أي يتجلى به تجليا ، ولعل الاله يتجلى ذهنيا عندما يدعوه فعل العبادة.

لم ينظر المصريون القدماء الى المعابد ، على انها قصور الالهة التي تنصب فيها تماثيلهم على صورهم ، حيث تقدم اليهم القرابين والهدايا والنذور ، وتدام لشأنهم الشعائر والطقوس الدينية ، ولم ينظروا اليها ايضا ، على انها قلاع لهذه الالهة يجب ان تشيد من احجار صلدة تقاوم الزمن ، وتخلد خلود الالهة. لم ينظروا اليها لهذا او ذاك وحده ، بل نظروا اليها كذلك نظرة رمزية ، لانهم جعلوا هذه المباني الشامخة تجسيدا للكون باسره. فجعلوا سقوفها تجسيدا للافق السماوي الذي بزغ منه اله الشمس ليغمر بضوئه العالم. وجعلوا ارضية المعابد ، رمزا للارض التي برزت من محيط العدم ، والذي ارتكز فوقه الاله الخالق ، كي يتابع تشكيل هذا الكون. وهكذا كان المعبد في نظر المصريين القدماء ، بيتا للاله ، ومكانا مقدسا لأداء الطقوس الدينية ، ونموذجا رمزيا مصغرا للكون بسمائه وارضه ، ومسرحا يلتقي على منصته الابدية الالة بالملك الذي يمثل شعب مصر.

اتبع المعماريون المصريون القدماء ، نوعا من الجو اللاهوتي الديني البحت في عمارة المعابد ، والذي يؤشر الى وجود تأثيرات سايكولوجية تثير الانفعال والتفاعل العاطفي ، وذلك بفعل نظم تصاميم المعابد الهندسية ، وكيفيات انارتها ، ان آليات استخدام الضوء في المعابد ، ليس بقصد الانارة فقط بل كان له دورا رمزيا ايضا ، وذلك بفعل تدخل فيزياء الضوء ، لخلق تأثير جمالي ، يكسب تمثال الاله حيوية كبيرة. فكانوا يعملون على ان يصل الضوء الى حرم المعبد ، وان ينير ويمس تمثال الاله وحده ، كي يبقى ما حوله في ظلام دامس يحيط الاله بالغموض ، انه نوع من التجريدية ، التي تصل بالاله المعبود الى اللامحدود واللاتشبيهي في نظام انارة التشكيلات الفنية. فكانوا يوجهون اشعة الضوء الطبيعية ، بطريقة مسرحية ، وبنظام ابداعي ، من خلال فتحات في السقف او في اعلى الجدران ، بحيث يتركز الضوء في ضوء تماثيل الالهة وحدها دون الاعمدة والجدران المجاورة لها.

كان المعبد المصري يبنى كي ​​يوقع اسقاطات الغرائبية في سايكولوجيا المتعبدين ، مثلما تسعى فنون ما بعد الحداثة ، ايقاع الغرائبية في نفسية متلقي الاعمال الفنية ، ذلك ان الرؤية المثالية للفن قد نسيت في عالم اليوم ، وحل محلها عالم يسعى دائما الى ايقاع الاحساس بصدمة الاندهاش والدخول الى اعمق نقاط سايكلوجيا المتلقي. ذلك ان المعابد قد بنيت بحيث تضيق من الداخل تدريجيا ، فكلما توغلنا فيها قدما ، وجدنا جدرانها تتقارب وارضياتها تعلو بشكل انسيابي ، في حين يقل ارتفاع السقوف. مما يزيد ويؤجج غموضا محيرا ، يوقع الخوف والخضوع والترقب في نفوس المتعبدين. انه نوعا من الهندسة اللاإقليدية ، التي كرست لتعمل ، خارج قوانني الهندسة الاقليدية ، لتجسيد البنية المايثولوجية ، والطابع التاملي ، والكشف والترقب والتأويل في ذهنية المتعبد ، ذلك ان الفن كان يعمل بفاعلية على اقامة اتصال ، بين تلك الحقيقتين اللتين تتنازعان الفكر الانساني ، الحقيقة المادية التي يستشعرها جسمه ، والحقيقة اللامادية حيث تحيا الروح.

لقد شاركت حضارات اخرى الحضارة المصرية في هذه الرؤية للمعبد ، لكنها في مصر كانت ذات اعماق ابعد ، وكان لها انعكاساتها في العمارة المصرية القديمة ، فقد كان المعبد واحدا من اهم ركائز الديانة ، باعتباره عنصرا فكريا ضاغطا كبيرا في ايديولوجيا المعتقد الديني. ذلك انه الحيز المكاني ذي الدلالة الرمزية ، وذي القدسية الروحية ، الذي اختير بكل عناية لتحقيق فكرة تعظيم الاله. لقد اكتسب المكان خصوصيته بفعل حلول الروح الالهية فيه ، فأغدق عليه المجتمع المصري كل تبجيل وتقدير وتقديس واحترام. الامر الذي يؤكد ضخامة الطقوس الدينية الجماعية ، التي كانت تؤدى باستمرار ، فقد كانت هناك روحا جماعية ، وهناك عادات وتقاليد واتجاهات فكرية سائدة ، فبدى المعتقد الديني وقد امتلك كل حيز المجتمع. ذلك ان الوعي ينطلق هنا مما هو ذاتي واجتماعي وروحي.

قبلت السايكلوجيا السومرية ، بان تميز البساطة هيكل المعبد السومري في كل دلالاته الرمزية ، ذلك ان المعابد السومرية ، التي ذرت اطيانها ولبنها الرياح ، كانت تجسيدا للنظام الارضي الفاني ، لصالح الوجود اللانهائي للميتافيزيقا. فبقدر ما كان المعبد بسيطا ، كان الاله في سومر عظيما مبجلا ، لقد امتلك صفة الفضيلة على العقول. في حين تميزت المعابد المصرية القديمة بالفخامة المفرطة والاتساعات والامتدادات الافقية الشاسعة ، انه نوع من الرمزية المستندة الى فكرة تعظيم الاله بفكرة التفخيم والاتساع. وربما في ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع ، لكشف المضامين الخفية للحقيقة ، باعتباره تعبير جاد وصحيح عن الزمان والمكان ، وهو صورة لروح وثقافة المجتمع.

فهناك العديد من القاعات المظلمة المليئة بالسحر والغموض ، وهناك الساحات العديدة لاقامة الطقوس والمهرجانات الدينية ، ومقصورات متعدد للالهة الاخرى. وقد الحق بالمعابد ابنية اخرى لإقامة الكهنة. وكانت المعابد تضم الى جانب ذلك بحيرة مقدسة ، تكثر فيها النباتات ذات القدسية الدينية ، مثل نبات البردي الذي آوى الالهة (ايزيس) لتكون آمنة ساعة ولادة ابنها (حوريس) ، ونبات زهرة اللوتس ، التي انبثقت من العدم لتحمل الاله (رع) بقوته الخارقة. واضافة الى ذلك هناك صروح المداخل المعمارية العالية والضخمة ، والتي تعبر عن فكرة رمزية قدسية ، فهي تعبر عن الافق الذي تصوره الفكر المصري على انه ممر بين جبلين تشرق منه الشمس رمز الاله (رع) قوة الخلق الفاعلة في الوجود.

شيدت المعابد المصرية القديمة ، من احجار صلدة مقاومة للفناء ، لتدلل على فكرة الابدية ، التي امتلكت حيز الفكر الاجتماعي ببنيته الكلية. ومادة البناء الازلية هذه ، ترتبط من خلال التكوين بدلالات المضمون ، فثمة حقيقة داخلية او باطنة تفصح عنها المادية الظاهرة ، فتتجلى الروح والعاطفة والفكر في كل واحد لابراز او ايصال بلاغ قيمها التعبيرية.

وكانت اعمدة المعبد الكثيفة كالغايات تحمل السقوف الحجرية الثقيلة ، التي كانت احيانا ترصع بالنجوم ، كما تحمل الالهة السماء على كواهلها وخاصة الاله (شو) (الهواء) الذي فصل السماء عن الارض بموجب اساطير الخليقة. ومثلت الاعمدة وهي تحمل دلالات رمزية على هيئة النباتات كالاعمدة النخيلية واعمدة نبات البردي ونبات اللوتس. لقد كانت الحضارة المصرية حضارة الرمز والرمزية ، والتأويل الفكري والكشف الابداعي الاصيل.

شهدت المعابد المصرية كبنى جمالية ، نظاما من التضايف ما بين اجناس الفنون التشكيلية. فهناك النحوت المجسمة الملكية الكبيرة الحجوم التي تتقدم المعابد. وهناك ايضا النحوت البارزة والغائرة على السطح ذي البعدين بالاضافة الى الرسوم الجدارية والكتابة الهيروغليفية الملونة ذات الصيغ السحرية ، وقد نظمت المشاهد حسب موضوعاتها ، فالمضامين الحياتية عرضت على جدران المساحات الخارجية ، في حين اختفت التشكيلات ذات الدلالات الدينية ، عميقا في اجواف القاعات القدسية المظلمة. كما سنوضح ذلك حين نتناول النحت والرسم الجداري بالدراسة والتحليل.

تتميز انظمة بناء المعابد المصرية المعمارية بالثبات ، والتمرحل عبر فترات تاريخ الفن في بلاد وادي النيل ، بشيء من النمطية والتشابه ، ذلك ان مفهوم النظام بهذا الصدد ، يتميز بالثبات وقلة التحولات ، بحكم ثبات المرجعيات ، وانعدام الازاحات الثقافية الكبيرة ، وكذلك بفعل قدسية التقاليد والانظمة الروحية ، فحين يتدخل الروحي في كينونة النظام ، يكتسب صفة التقديس ، وينتقل من جبل الى جبل بأمانة ، حين يبجله المجتمع بشيء من التقديس ، فيتحلى بنوع من الحيوية النابضة ، تفرض نفسها على الذات ، حين تنادي بها النحن الجمعية كأعراف او تقاليد قدسية.

 

طرز المعابد المصرية

يميل الاسلوب في العمارة المصرية القديمة الى الثبات ، وسبب ذلك كما اسلفنا ، قلة التحولات او الازاحات الفكرية الكبيرة في بنية الفكر الحضاري ، ذلك ان ثبات بنية الفكر بجميع انظمته الثقافية العاملة ضمن اطار البنية الفكرية ، يقود في معظم الاحيان الى نوع من السمترية في حركة الاسلوب المعماري ، بصدد النسيج الفكري الكائن في بناية الطرز المعمارية ، والخامات المستخدمة في البناء والتي اريد لها قولبة الافكار ، والانظمة الشكلية التي تعبر بشكل او بآخر كوجهي عملة عن حركة المضامين الفكرية. ومع وجود الوحدة في خصوصية الطراز ، الا ان وظيفة المعبد العبادية وخصوصيتها التي تقررها ماهية القوة الفكرية الضاغطة (نوعية القوى الغيبية) والتي كرست الابنية لإجلالها ، تؤدي في كثير من الاحيان الى نوع من التنوع في طراز المعابد ، ومع وجود هذا التنوع الا انه لم يصب الجوهر ، اذ انه يقع ضمن دائرة الوحدة التي تميز عمارة المعابد المصرية. واشهر هذه الطرز واهمها هي :

 

1 — المعابد الملحقة بالاهرام :

ضمن اطار وحدة النظام الذي يميز ابنية الاهرام ، باعتبارها دلالات رمزية مرتبطة بكم هائل من الافكار ، التي ابدع من اجلها البناء ، لايجاد حلول لمشاكل روحية اجتازت بالحاح كبير حركة الفكر الاجتماعي في زمانه ومكانه. كان لابد من تخصيص بيئات مكانية ، تقام فيها طقوس العبادات الجماهيرية ، تبجيلا للروح الملكية الالهية التي تشتغل في منطقة المطلق واللانهائي اولا ، ولغرض تحقيق وظيفة الهرم الرمزية في بعث الروح الاثيرية الصاعدة الى عالم الاله (رع الخالد) هذا النوع من نظم العلاقات الفكرية ما بين الهرم والمعبد الملحق به ، كان التأويل الاساسي لاقامة هذا النوع من المعابد المهيبة.

والمعابد الملحق بالاهرام ، نوعان اولهما المعبد الجنائزي ، وهو معبد جليل الشأن يقام عادة لصق الهرم ، وظيفته احتواء طقوس وشعائر عبادة الملك الاله ، لتحقيق رحلته الابدية الخالدة. وهو تشييد معماري ضخم زين بإفراط بالرسوم الجدارية والاعمال النحتية والكتابات الهيروغليفية الملونة ، التي تشير دلالتها الرمزية القدسية الى دورها الفاعل في تحقيق عملية الخلود الملكية. ويتركب البناء المعماري ، من مدخل ضخم يؤدي الى قاعة مظلمة مزدحمة الاعمدة ، ترتبط بدلالتها الرمزية بفكرة العماء الاول الذي انبعثت منه الحياة. وتفضي الى ممر ضيق ، هو بمثابة دلالة فكرية رمزية رابطة ما بين بدء الخليقة ، وولادة نظم الكون والاشياء ، والتي تتجسد كبناء رمزي من التعبير ، بساحة مكشوفة منتظمة الشكل ، محاطة بأروقة ، تعرض بها تماثيل الملك الاله ، لأغراض العبادة والتبجيل.

اما النوع الثاني من المعابد الملحفة بالاهرام ، فيعرف باسم معبد الوادي ويقع بعيدا قرب العاصمة الملكية ، ويرتبط كدلالة فكرية رمزية ببناء الهرم ، بممر مهيب ، تم اكساءه بنوع من الاحجار الجميلة ، واقيمت على جانبيه التماثيل المدورة ذات المضامين الدينية ، ويتألف هذا المعبد ، من بناء حجري صغير ، يتألف من قاعتين اولهما مستعرضة والاخرى طويلة ، مزدحمتان بالاعمدة ، وهما ككل نوع من الفضاء المظلم ، والذي سلطت من سقفه ، حزم اشعة الشمس الضوئية ، على تماثيل الالهة حصرا ، كنوع من الفعل المسرحي ، لتعظيم فكرة العبادة ، ولإجلال شأن الدلالة الرمزية للتماثيل الملكية الالهية ، والتي تتلقى طقوس العبادات الجماهيرية الواسعة النطاق ، والتكوين بمفرداته الرمزية المعمارية وهي الهرم والمعابد الملحقة به ، تعمل ضمن بنية فكرية واحدة ، يتصل بها ما هو ارضي بما هو سماوي ، ويتضايف بها ما هو جماهيري مع ما هو ملكي ، ويتعالق بها ما هو حياتي بما هو خالد ، في نظم من العلاقات الفكرية الفاعلة والمترابطة في نوع من النظام الثقافي المكتفي بذاته ولذاته.

 

2 — معابد الشمس :

يستمد العمل المعماري في مصر القديمة ، مدلوله من مضمونه الروحي ، هذه الدلالة التي ينبغي ان تسري في اوصال العمل المعماري وتكون له بمثابة الحامل. ومن هنا كانت معابد الشمس في عصر الدولة القديمة والتي كرست لعبادة الاله (رع) والذي يتجسد رمزيا في قرص الشمس وضيائها الوهاج. عبارة عن مساحة منتظمة مكشوفة دائما ، كي يحل ضياء الشمس بكل سنتمتر منها ، عزلت المساحة كدلالة رمزية قدسية بجدار منتظم ، هو الحد الفاصل بين دلالات الواقع المادية والروحية. وقد زينت واجهة الجدار الداخلية برسوم من مشاهد الطبيعة في فصولها المختلفة. وذلك نوع من اختزال الفكرة الى دلالاتها الرمزية ، وبثها كخطاب تشكيلي واضح التأويل ، ذلك ان الفكر الديني بفصح هنا ، عن دور الخلق الذي تبثه الشمس يوميا ، في دورة النمو الطبيعية وتمرحلها عبر فصول السنة. نوعا من الانطباعية التي تهتم بدراسة اثر الضوء في تحليل الوان الطبيعة ، لكنها تشتغل هنا في دلالتها الروحية كنظام تعالق بين الظواهر ، بعد ان تمرحلت فيزياء الضوء وخصوصياته في تحليل اللون ، الى مرحلة ثانوية في بنائية التكوين.

والمركز الفكري في بنائية هذه المعابد الشمسية ، هو مسلة هرمية الشكل ، حجرية التكوين ، شاهقة الارتفاع ، تتوسط الساحات ، وقد موهت نهايتها المدببة بالذهب ، كدلالة تبثها الخامة وهي مرتبطة بالازل واللانهائية. نوعا من التعالق العلامي ما بين ازلية الذهب ، وسرمدية ضياء الشمس ، والذي تكثف بفعل عدسة دقيقة التركيز في قمة المسلة الهرمية. كل شيء يشتغل هنا مضن مركز شمسي ، ولذلك نحتت سفينتان بالارض الصخرية ، قرب المعبد ، كي يتمكن بواسطتهما الاله (رع) من اتمام دورته اليومية ، نهارا حيث ينبر عالم الاحياء ، وليلا حيث ينير عالم الاموات. فعلا كانت الشمس نقطة المركز في نظام الطبيعة والبيئة المصرية ، ولذلك نالت كل هذا الاجلال العظيم.

 585 - maghaber

 

3 — معابد الجبال :

اختلف فلاسفة الفن في جمالية الطبيعة ، فالبعض رأى جمال الطبيعة الاسمى ، وان جماليتها كامنة في ذاتها ، باعتبارها من خلق جليل قدير. في حين رأى اخرون ، ان على الفن ان يؤسس نسق خاص بالعمل الفني ، يعتمد الطبيعة كمحفز في العملية الابداعية للاعمال التشكيلية. أي ان على الفن يؤسس او يخلق بنية ، تتصل بالطبيعة بطريقة او باخرى ، الا ان لها نسقها الخاص ، الذي يعتمد التأسيس والخلق الابداعي. وسواء اصح هذا الرأي ام ذاك ، فان هذا النسق من طرز المعابد المصرية ، يتميز بوجود نوع من التعالق الفكري والشكلي ما بين خصوصية نظام الطبيعة المتجسدة بالجبال الهائلة الحجوم ، وابنية المعابد التي بنيت لصقا لها.

يمكننا ان نلخص فكرة العمارة في هذا الطراز ، هو ان المعابد كانت تبنى لصق الجبال ، بعد قطع صخورها بجهود بشرية عظيمة. الامر الذي اكسب اشكال هذه المعابد ضخامة خرافية ، من خلال سعي المعماريين لإقامة نوع من التناسب بين حجوم وكتل الجبال مع كتل المعابد الالهية ، ومن جهة اخرى ، فقد اكتسبت ابنية المعابد جلال وهيبة الطبية ، في حين اكتست الطبيعة بقدسية معبد الاله ، انه نوع من الاسقاطات ما بين الروحي والطبيعي ، حين تسامى الطبيعي الى جلال عظمة الروحي. بفاعلية الجهد الابداعي للمعمار الذي استطاع ان يتغلب على الطبيعي والمادي ، ويؤكد ذلك الانتقال بالشكل الطبيعي من صورته العرضية الى شكله الجوهري الخالد ، الذي يبغي العموم بالرمز ، وفي ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع لكشف الدلالات الباطنة للحقيقة.

ظهر هذا النوع من المعابد المصرية في عهد الدولة الوسطى ، واستمر بالظهور ايام الدولة الحديثة ، واشهر نماذجها من عهد الدولة الوسطى معبد الفرعون منتحوتبي في الدير البحري ، ومن عند الدولة الحديثة معبد الملكة حتشبسوت في الدير البحري ايضا ، وهذا التعالق بين الطبيعة وانظمة المعابد الهندسية كتجريدات معمارية تعكس سايكولوجية المعمار في مصر القديمة ورؤيته للكون والوجود ، وذلك بنوع من المزاوجة بين فنه الروحي وبين جمال الطبيعة المهيب ، حتى بدت المعابد وكأن الطبيعة قد هيأت الموقع لتقام فيه ، ولعل هذا النسق يرتبط بنسق وانظمة المعابد المعمارية كانت له اهمية رمزية ، يتمظهر بنوع من الاحتماء بجلال الطبيعة ، حين يغور معبد الاله عميقا في جوف الجبل.

يتألف معبد الفرعون منتحوتبي الثاني من عهد الدولة الوسطى ، من جزأين رئيسيين ، يتقدم احدهما الاخر ، يتألف الجزء الامامي منهما ، من بناء مدرج من طابقين ، وهو بهذا اشبه بالابنية المدرجة ، التي تعبر دلاليا عن وصل السماوي بالارضي ، وتجسد رمزيا ارتفاع ربوة الخليقة الاولى. يحيط بكل طابق منهما رواق ضيق محدد بصفين من الاعمدة ، وقد شيدا بتناسق وتناسب وتوازن جميل ، يرتقى الى الطابق العلوي بمنحدر حجري ، ويتوج اعلى الامتداد العمودي ، هرم صغير حجري التكوين ، كتعبير دلالي عن عظمة اللانهائية والابدية اما الجزء الخلفي من المعبد ، فيقع خلف الجزء الاول ، ويتالف من باحة مكشوفة محاطة من جهات ثلاث برواق ضيق يقوم سقفه على صفين من الاعمدة ، تشع اشعة الشمس في كل ارجائها كتجسيد دلالي عن عظمة الاله (رع) خالق الوجود. وتتصل الباحة بجدارها الخلفي بقاعة مظلمة مزدحمة بالاعمدة. تغور في اعماق الجبل ، اقيمت بها تماثيل الملك الاله لاغراض العبادة والتقديس. وهنا نجد انفسنا بمواجهة خصائص روحية لها اهمية ميتافيزيقية تتصل بالغيبي بوسيط غامض ذو طبيعة سحرية ، فهذا السحر الكائن في جذور الفكر الانساني ، والذي يوحي بذات الوقت باحساس بالعجز ، ووعي بالقوة المتفوقة تحسبا لأحداث الوجود ، مع القدرة بالسيطرة عليها ، وهو الجوهر الاصيل للالهام الاول.

ويتصف معبد الملكة حتشبسوت من عهد الدولة الحديثة ، بذات النظام المعماري ، فهو يتألف من ثلاث طبقات شيدت بمستويات متصاعدة الارتفاع ، يتصدر كل منها رواق ضيق امامي ، نحتت جدرانه بمشاهد نحتية ، تعرض نشاطات الملكة الدينية والدنيوية ، ويتصل التكوين المعماري الى بعضه كقيمة كلية بطريق صاعد ، اما الجزء المركزي من المعبد ، فقد بني فوق الطابق الثالث ، وتتصدره ساحة مكشوفة يحف بها صفين من الاعمدة ، وتقع مقصورات استقرار تماثيل الملكية العبادية في جدارها الخلفي الذي يغور في باطن الجبل. ويمكن قراءة التدليل الرمزي في هذا التكوين الابداعي ، وفقا لانساق هذا النظام من المعابد المتماثلة ، ذلك ان فكرة الارتفاع نحو الابدي ، وغمر اشعة الشمس مساحة المعبد ، وغور قدس الاقداس ( CELLA ) في جوف الجبل. هي وعي الفنان باقامة عالم اخر ، من القيم والمعتقدات الروحية له صفة الثبات والديمومة ، بدلا من عالم الظواهر الحياتية المتغير ، فاكتسبت الاشياء والظواهر فيه مضامين روحية ، بدلا من خصوصيتها الواقعية المباشرة ، فانطباعاته لم تأتي عن مسرته في الملاحظة المباشرة والحسية للظواهر ، بل كان سعيه منصبا في تكوين مضامين ذات مغزى اعمق ، أي انه يؤول الجوهري كمعنى في بنية المفردة التركيبية في التكوين ، فانه عندما ينجز فعلا باعتباره عملا من اعمال الاستعطاف السحري ، فأنه يعتبر بمثابة التأسيس لعالم الوجود الابدي ، بدلا من فيزيقية العالم العضوي ، حين ينتصر الروحي ويتألف على حساب وقتية ومحدودية المادي.

 

4 — معابد الدولة الحديثة :

وكان اول مظهر من مظاهر تألق فن العمارة الدينية في عصر الدولة الحديثة ، هو ازدياد عدد المعابد التي اقيمت لتكريم الالهة والملوك الالهة. وقد تناثرت المعابد بكثافة على جانبي نهر النيل وخاصة في العاصمة طيبة كما في الكرنك والاقصر. وبدت المعابد بفعل ضخامتها واتساعها الهائل كأنها الحصون. ولم يكن الملوك يكتفون باقامة معابد جديدة ، بل كانوا يوسعون المعابد القديمة ويعيدونها للوجود ، انه عصر مليء بالورع الديني العميق ، حين يضفي المعبد عظمة وجلالا على عصره وبيئته المكانية.

وتتصف معابد الدولة الحديثة ، بتشابه انظمة بنائها ، وتطابق سماتها الفنية والمعمارية المميزة. وهي بشكل عام تشيد على الارض المستوية ، واشكالها مستطيلة تمتد لمسافات شاسعة ، يحيط بها سور حجري ضخم اكسبها مظهر القلاع المنيعة. ويتألف كل منها من ثلاثة اجزاء رئيسية ، هي الفناء الامامي وقاعة الاعمدة ومقصورات الالهة. ويزين مدخل المعبد المهيب الذي يقع في احد ضلعيه القصرين ، برج ضخم توضع فيه ساريات الاعلام والشعارات الرمزية المرتبطة بالفكر الاجتماعي. ويفضي المدخل الى الفناء الامامي ، ويتجسد بشكل ساحة فسيحة مكشوفة ، يحيط بها من ثلاثة جهات رواق مسقف ضيق يقوم سقفه على صفين من الاعمدة ، اعد لاستراحة جماهير المتعبدين ، ومن فناء الساحة الازلي ، تنتقل حركة المتعبد ، نحو قاعة الاعمدة المظلمة ، وهذه المنطقة المظلمة والتي تجسد العماء الاول الذي انبثقت منه الحياة والخلق الاول ، قد تكون بسيطة تتألف من صحن واحد كما في معبد الاله (خنسو) في الكرنك. او تكون معقدة التكوين حين تضم ثلاثة صحون ، الجانبيان منهما اقل ارتفاعا من المركزي كما في معبد رمسيس الثالث في الكرنك ايضا. وفي الجدار الخلفي لقاعة الاعمدة المظلمة ، تتجسد الدلالة الرمزية بالوجود ، حين يتغير نظام الانارة بفعل ابداعي ، نحو ساحة صغيرة تسطع فيها الشمس ، وهي موضع اقامة طقوس العبادة ، حيث عرضت تماثيل الالهة ، لتتلقى تقديس واجلال البشر.

جرت العادة في مصر القديمة ، على اتباع فكرة تعالق اجناس الفنون التشكيلية المختلفة ، حين زينت مداخل المعابد بالتماثيل الملكية المعبودة ، والتي اكتسبت سمات معمارية بفعل تعالقها مع الابنية المعمارية. حيث يوضع اثنين او اربعة من التماثيل الملكية الهائلة الحجوم والتي يصل ارتفاعها الى 30 م ، امام بوابة المعبد واشهرها تماثيل الفرعون رمسيس الثاني في معبد او سمبل ، اما موضوعات النحت على السطوح المعمارية ذات البعدين ، فكانت تزين جدران الساحات الخارجية والقاعات الداخلية ، حيث تتمركز مشاهد الفرعون الحياتية كالصيد والحملات الحربية على جدران الساحات الخارجية ، وقد نفذت بتقنية النحت الغائر لمقاومة عوامل الطبيعة. اما المشاهد الدينية فقد عرضت على سطوح جدران القاعات الداخلية وتتميز بتقنية النحت البارز عن الارضية ، كونها مشاهد محمية من اعتداء الطبيعة.

 

د. زهير صاحب — 2009

أستاذ مادة تاريخ الفن القديم

كلية الفنون الجميلة — جامعة بغداد

Comments are disabled.