فن الرسوم الجدارية الاشورية

zouher_sahebفضل الاشوريون فن الرسم الجداري بنفس التفضيل الذي مالوا به للنحت البارز. فبهذين الفنين يمكنهم تغطية سطوح واسعة من جدران القصور بماثر ملوكهم وعظمائهم ، figure ، ولسوء الحظ الاعمال الباقية من الرسوم ما هي الا جزء صغير مما كان موجود قبلا. فقد افنى الزمن النسبة اللأعظم من فنون الرسم الجداري أكثر مما فعله بالفنون الاخرى ولسبب واحد هو ان الالوان تخفق في مقاومة تأكل الارض ورطوبتها.

كان الاشوريون يميلون الى طلاء الارضيات (ارضيات الرسوم) بطلاء خفيف من الطين عند إعدادها للرسم ، ولا يستطيع المرء الا ان يدهش للسبب الذي كان يدعو الرسامين الى الالتجاء الى ارضية هشة تماما مثل لصاق الطين ، في الوقت الذي كان فيه الجص متوفرا ويمكن ان يضمن نتائج افضل. ففي المقر الاقليمي الاشوري في تل بارسيب (تل احمر) شمال سوريا ، كشف عن نتاج هائل من الرسوم الجدارية يصل طولها الى اربعمائة قدم من الجداريات الملونة ، وقد ثبت استحالة فصلها عن الجدران لكونها مرسومة على طلاء طيني خفيف يتعرض للانهيار عند اول لمسة ، ومع ذلك فان النسخ التي رسمها الفنان (لوسيان كازفو) ، توفر لنا وثيقة ذات قيمة بالغة عن فن كان في مجالات كثيرة اصيلا بشكل رفيع ومن صنع فنانين ماهرين ومتخصصين حقا.

كان الرسام الاشوري يفضل ترك الارضيات بلونها الطبيعي دون ان يلونها ، اما وحدات المشاهد فكانت تخطط بطريقة حرة دون وجود شبكات خطوط التربيع الهادية في الرسم والتي استخدمها الرسام البابلي ، فنحن هنا امام رساميين مهرة من الدرجة الممتازة ، حيث تخطط الخطوط الخارجية للاشكال اولا باستخدام اللون الاسود والاحمر قبل وضع الالوان ، ومن ثم ترسم تفاصيل الاشكال الداخلية بالالوان المرغوبة في الجو اللوني العام للرسوم الجدارية الاشورية واكثرها شيوعا الاحمر والاسود والابيض والازرق ، واغلب هذه الالوان من المغرة ( مغرة ) الترابية التي يمكن التلاعب بدرجتها اللونية باستخدام الحرارة قبل الاستعمال ومقدار الكمية المذابة منها في الماء كما فعل ذلك الرسام البابلي من قبل ، اما اللون الازرق المفضل جدا في الجداريات الاشورية فانه مقارب جدا للكوبالت ، وقد اظهر تحليل تركيبه الكيمياوي المواد التالية (74.27 ٪) من السليكا ، و (10.27 ٪) من اوكسيد النحاس و (9،19 ٪) من القير ، مع كميات ضئيلة من الالمنيوم واوكسيد الحديد واوكسيد المنغنيز والمغنيسيوم والبوتاسيوم والصودا بصفة شوائب.

تشتهر رسوم الاشوريين الجدارية بانسجام وتجانس الوانها ذلك لان الرسام الاشوري قد اتقن اسلوب تدرج الالوان في الرسم من الدرجة الشفافة الى الدرجة النصف معتمة حتى الالوان الداكنة ، فقد اظهر جمالا أخاذا في استعمال اللون الواحد بدرجات مختلفة من الحدة ، ونوع ذلك اكثر بمعرفته طريقة مزج الالوان مع بعضها للحصول على الوان اخرى ، كمزج اللون الاحمر مع الابيض للحصول على اللون الوردي ، وتشدنا مشاهد الرسوم الجدارية الاشورية اكثر الى جمال الخطوط التي نفذت بها وحداتها البشرية والحيوانية ، وبالمعالجة الناجحة وربما المبالغة في توضيح عضلات اجسامها ، وبالدقة المتناهية في توضيح تفاصيل نسيج الملابس وابراز حليتها التزيينية كالزركشة والاهداب بالوانها الحقيقية الجذابة.

 567 rsom

تتطابق مواضيع الرسم الجداري مع مواضيع النحت البارز لان كلا النوعين يتم تصميم مشاهده اولا من لدن الرسامين ، وبإرادة ملكية واحدة تتلهف دوما لتخليد أعمالها. والامر الذي يثير الدهشة هنا ، هو اختفاء المواضيع الحربية في مواضيع الرسوم ، ربما لضياعها ، او لأن الملوك قد إكتفوا بذلك الزخم الكبير الذي مثلوه باسلوب النحت البارز على الحجر ، الذي يمكن ان يقاوم الزمن وتقلباته مدة اطول مما تفعله الرسوم ، وبشكل عام تصور رسوم الاشوريين ثلاثة مواضيع رئيسة ، هي : المشاهد الدينية التي يظهر فيها الملك بوقفات تعبدية امام الالهة ، وتظهر فيها كذلك اشكال بشرية مجنحة تقتاد حيوانات لتضحيتها في حضرة الالهة ، او تصور اشكالا بشرية تمسك بادوات التطهير الديني ، وقد اوكلت اليها مهمة تطهير زوار القصر برفقة الثيران المجنحة.

       اما الموضوع الرئيس الاخر فيمكن تسميته بالمواضيع الدبلوماسية وتصور مشاهدها احداثا من حياة الملوك الرسمية ، فقد كان الملوك حريصين على احلال العدالة وعقد الاجتماعات المهمة وسماع الشكاوي وتقبل الولاء والجزية من وفود الامم المغلوبة. ويبين اكبر تركيب في قصر (بارسيب) الذي يبغ طوله اكثر من سبعين قدما من الرسم الجداري الملون ، الملك الاشوري جالسا على العرش وهو يمسك بصولجان طويل ويصغى الى مجموعة من دافعي الجزية ، وقد انحنى رئيسهم ، بل في الواقع انحنى على وجهه على الارض بين قدمي الملك ، ووقف خلفه عدد من كبار موظفي القصر طبقا للنظام الذي يحدده العرف الدبلوماسي السائد ، اما الموضوع الاكثر شهرة فهو حملات الصيد ، فتظهر جملة من الخيول المسرجة تقف اثنان فاثنان برؤوس مريشة وفي حالة تأهب ، وقد راح الجنود يحاولون جرها وضبطها بانتظار وصول الملك الذي ستنطلق به لمواجهة الاسود الشرسة كما حدث ذلك وبكثرة في مشاهد النحت البارز على الحجر ، فهنا تتألف حيوية المشهد ، وحركاته القوية ، وواقعيته في تصوير الانفعالات على الاشكال ، بالالوان البراقة ، وليونه خطوط اللون التي بعثت فيه حياة متحركة ، وقوة تعبيرية هائلة.

 

د. زهير صاحب — 2010

أستاذ مادة تاريخ الفن القديم

كلية الفنون الجميلة — جامعة بغداد

Comments are disabled.