الأداء الفكري والإخراج الفني

      لا يخفى إن العملية الفنية هي منظومة من العلاقات المتكاملة الخاضعة لمتغيرات تحددها  ضوابط خاصة بزمن العمل الفني ومادته وطريقة إظهاره، وهنا لابد من الإشارة إلى  إن المحرك الأول للوجود الفني هو منظومة الفكر الإنساني ،والتي لا يمكن الاستدلال عليها إلا بالإنتاج الفني ، إن لنبوغ العمل الفني  قيمة خاصة تحمل دلالات حركة الفكر ونشاطه وهو بالتالي القوة المحركة للمجتمع الإنساني بأكمله ، لذا يكون تطور الفكر الإنساني هو وحدة قياس الحضارات ونموها. ، وفي التفوق الفني فان  الفكر الإنساني يتمخض عن شفراته والتي تترجم إلى عدد من العلاقات الصريحة والإيهامية المؤثرة في الفرد ، إن شفرات الفكر المتحفز  الواعي قادرة على استنباط رؤى ودلالات توحد البناء الحضاري النامي للمجتمع .

     يعنى الأداء الفكري إلى رصد المفاهيم المجردة فيما يتعلق بالإبداع الفني وهو تحفيز المفاهيم القديمة وتمازجها مع المفاهيم الجديدة الواردة تباعا لتتحول إلى عملية ابتكاريه مختلفة بصفاتها ونتائجها ،خاضعة لفرضيات تم تجريبها والإجابة عليها لتتحول إلى فعل للتنفيذ والإظهار.

      إن التراكم الفكري ناتج عن عدد من المؤثرات منها مكتسبة من خلال التجربة وتنمية الحدس والالتقاط وبرمجة المعلومات في (تقنية) فكرية خاصة ، ومنها مرتبط بالفطرة والنمو الذهني والتركيب السيكولوجي للفنان ، والذي يعتمد الوجود الذهني الأول الذي أوجده، وتطور بنموه، وهنا يمكن أن تتلاقح تلك المؤثرات والتي تكون الأداء الفكري النهائي ، والذي هو مجموعة من الأدوات والوسائل التي تكون دلالة الفكر المعرفية وقدرته على الإبداع والاستنباط ،ويمكن ترجمتها بالفكر والموضوعية والتعبير في إنشاء الصورة  الذهنية والصفة المادية الأولى للفكرة وهو الاتقاد الأول لشرارة فكرة العمل الفني ووجوده .

     ولما يكن ذلك الفكر معتمدا لأدواته بصورة منطقية صحيحة تنسحب تلك الرؤية في تسميتها بالأداء الفكري الخاص بالفنان، المؤدية إلى مخاضاته والصانعة لسماته الفنية والأسلوبية المتحركة ضمن مدياته الزمانية والمكانية في جدلية العلاقة بينهما والتي تؤثر حتما في قراءة المنجز الفني لوجود وحضور الفكرة الأولى للبناء الفني.              

         ويتجه الأداء الفكري للبحث عن أدواته وآلياته في إظهار إمكانيته وقدرته وتحفيز كل الخامات لإيجاد الوسيط المناسب لذلك الأداء، ويبرع الفنان الذي يقوده اداءا فكريا متميزا لتوثيق العملية الإبداعية الذاتية والتي تهيأت بفعل المؤثرات التراكمية الذهنية لديه فيبحث في خاماته ،وتختلف الوسائل هنا في إيجاد الوسيط المناسب لذلك الأداء، فمنها ما يخضع للبعد البصري ، ومنها ما تكون أداته فعلا سماعيا حسيا وغيره من الوسائط المتاحة للفنان والمتمخضة عن العطاء البيئي له ،إذ أن وسائط البعد البصري القائمة على التصميم والتجسيد ذي البعدين أو ثلاثة أبعاد للمجسمات التشكيلية كوسائط تظهر العلاقة بين الوجود الفكري وآليات الإظهار.

         وتعتمد الوسائل البصرية والسماعية فنون المسرح والاداءات الراقصة .ويكون الفعل السماعي ماتبتدعه الوسائط الكلامية كالشعر والكتابة وكذلك الفنون الموسيقية والتي ترتبط بالأثر الحسي للمتلقي .

         أن وسائل الإخراج الفني تبدأ من الوعي الذهني بالصورة الأولى ليتبعها الفنان باستكمال تلك الصورة الذهنية الحدسية بأخرى مادية ملموسة، ويتابع الأداء الذهني  استكمال الصورة  بمعطيات متلاحقة ودلالات متواترة  تبحث عن مدلولات تجد تفسيرها ضمن شفرات العمل الفني الذي يعتمد إظهاره وإخراجه وسائط مترجمة تعتمدها خبرة الفنان  وقدرته على إنشاء التكوين الفني وبناءه. أن تلك الأبعاد الإنسانية لا تتوقف عند انجاز العمل الفني بل تتلاحق بالبحث عن الخامة وتغييرها أحيانا واعتماد إباحة كل الخامات مجازا لتقع ضمن شروط الإخراج الفني الذي يتبع الأداء الفكري بنجاح ويكون خطوة مكملة له.

       ويتباين الإخراج الفني ضمن الأداء الفكري الواحد أحيانا ، ويأخذ عدد من الاتجاهات لما يقتضيه معرفة الفنان بأدواته وطريقة إخراجه للمنجز الفني، بما يفرضه حضور الفكرة وضغط الأداء الفكري ، وقدرة الفنان وخبرته على ترجمة ذلك الضغط الفكري.

ومن هنا يأخذ الأداء الفكري شكلا مهما في عملية الخلق الفني فهو يأخذ شكله من تمازج الكائن ببيئته وإدراك الحقائق والتجريب فيها ، وانتخاب الوسائل الأكثر قربا إلى قدرة الخبرة أو التجريب على إنجاح ذلك الأداء الفكري ، فالمعرفة كما يقول دوي هي احد أنواع التفاعل الذي يجري داخل العالم أي إن التفاعل هو حركة الأداء الفكري والتفاعل هو الإخراج الفني وتأسيس الأشكال وإظهارها.

 

Comments are disabled.