صدر حديثا كتاب ( السرد في السينما – دراسة العلاقة بين وجهه النظر السردية وبناء الحدث الفلمي) للدكتور نهاد حامد ماجد، استاذ مادة السرد في قسم الفنون السينمائية والتلفزيونية.
يشكل هذا الكتاب مادة غنية بالمعلومات للباحثين والمهتمين والمخرجين كونه يسلط الضوء على العلاقة الوثيقة مابين الفيلم السينمائي والادب والرواية بصورة خاصة ضمن فضاء علم السرد، حيث شغل الخطاب السينمائي مساحة واسعة من الجهد التنظيري العالمي لأن السينما اليوم باتت بوتقة تنصهر وتمتزج فيها كل أشكال التعبير الإنساني . فشرعت بالخوض في حقول تجريبية كثيرة من خلال انفتاحها على الفنون والآداب والعلوم المجاورة مما دفع السينما الى الامام لتتبؤ مركز الصدارة بعدما احتكت وتحاورت وأفادت واستفادت من علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والحاسوب…الخ.
وعلى وفق هذا المفهوم فقد ، نشأت علاقة متينة بين الفلم السينمائي والآداب والرواية منه بشكل خاص وهذا ما يعترف به أحد الروائيين الذي يؤكد أهمية الترابط الوثيق فيما بين الرواية والفلم ” أن الرواية هي أداة السينما الأولى بسبب قربها من ذلك الفن، وليس لفرط سهولتها” وتوضحت هذه العلاقة كثيرا في اطار ما عرف بعلم السرد Narratology الذي يسعى الى الكشف عن البنية الحكائية لكل الخطابات السردية ومنها الفلم السينمائي . ولما كان سرد الحكاية في أي خطاب سردي يشترط وجود سارد يقوم بعملية السرد، ووجود مادة مسرودة هي الحكاية ذاتها وقد خضعت للقوانين السردية ، اضافة الى وجود مسرود له يتلقى ذلك السرد لذا فلنا ان نسلم بأن :
أولا: لا وجود لسرد من دون سارد (ظاهرا كان أم مختفيا)
فضلا عن ذلك فأن أي نظرة موضوعية للخطاب السردي عموما والسينمائي منه بشكل خاص تلزمنا القول بأن السارد وهو يسرد حكايته لا بد له من أن ينظر لها من زاوية معينة وهناك فرق شاسع بين ان ينقل السارد حكايته تلك وقد عاش أحداثها الحقيقية بصفته الشخصية ، وبين ان ينقلها من خياله.
وما تقدم يفضي بالضرورة الى المسلمة الثانية :
ثانيا: لا وجود لسارد من دون وجهة نظر
إن الربط الجدلي بين المسلمة الأولى والمسلمة الثانية يؤدي بنا الى استنتاج منطقي مفاده أن : لا وجود لسرد من دون وجهة نظر توجهه . أي لا وجود لفلم من دون وجهة نظر يترشح من خلالها.
إن ما تقدم من مفاهيم يدفع الى الواجهة ضرورة معالجة وجهة النظر السردية وأهمية الاستفادة من الجهد التنظيري المتعلق بها في مجال علم السرد ، مستشهدين بـ(البرت فولتون) الذي يرى ان اعتماد الرواية لوجهة النظر يمكن نقلها حرفيا الى الفلم السينمائي وهو الامر الذي يدفعنا بهذا الاتجاه ، ولكنه يجعلنا غير غافلين عن خصوصية كل وسيط سردي وخصوصية متطلباته ومن ثم خصوصية نمط ظهور وجهة النظر فيه .
وتتـوضـح آفـاق مشكلـة البحث بشكـل أكبـر عند استقرائنا لما يقوله ( أندريه بازان) من أن ” السرد نظام ضروري لتحديد المعنى ، وأن التحكم به قاعدة ضرورية ولازمة ، وليس اختيارا يتبع الأهواء “
ويرى الباحث ان ما يتحدث عنه بازان يتحدد بالضرورة من خلال وجهة النظر . ويزودنا ( جانيتي) برأي يسند هذا التوجه من خلال رأيه الذي يجد في تقديم وجهة النظر بصيغ مختلفة مدخل لتقديم معلومات متفاوتة ومتباينة يمكن أن تترشح من خلال وجهة نظر شخصية معينة ، وحسبما تتشكل تلك المعلومات في وعيها.
وقريبا من هذا التصور يزودنا ( ميشيل زيرافا) برأي آخر إذ يرى أن العمل السردي القائم على وجهة نظر شخصية قد يكون هو الحل الحقيقي لإشكالية التقنيات السردية.
وعند هذه النقطة الحاسمة ترتسم أمامنا تساؤلات تبلور مشكلة البحث وهي هل أن وجهة النظر تعمل على خلق المعنى ؟ وإذا كانت كذلك ، فكيف ؟ وما هي العلاقة بين وجهة النظر السردية وبناء الحدث الفلمي ؟
وعلى وفق هذا التصور كان لزاما على الباحث ان يخوض في هذا المقترب السردي السينمائي ، واضعا نصب عينه بشكل أساسي مشكلة جوهرية تستوقفه ، وتتمثل في الوقوف على مفهوم محدد لوجهة النظر السردية في الفلم الروائي.
ان عدم وجود هذا المفهوم الواضح ، يدفع الى الواجهة مشكلة البحث ويجعل من حل هذه الاشكالية ضرورة ملحة تسوغ الحاجة لهذا البحث وذلك للنظر للفلم السينمائي من زاوية جديدة تجعله أيسر للفهم وأقدر على حمل الدلالة ، وبالتالي ليحمل بحق خطاب الثقافة الجديدة من خلال اسهامه في تسليط الضوء على المفاهيم الحديثة لعلم السرد من وارتكازه على آراء أبرز المنظرين وبخاصة فيما يتعلق منها بوجهة النظر السردية واشتغالها في الفلم السينمائي .هذا بالإضافة الى انفتاح فن الفلم على الفنون المجاورة وخاصة الرواية منها وتوظيف ما كتب من أفكار ونظريات حول وجهة النظر السردية لصالح السينما يسهم في دفعها الى الأمام ويؤدي الى زيادة التأثير المتبادل وبما يضمن التواصل بينهما ، مع الحفاظ على خصوصية كل وسيط سردي .وهذا مما يؤكد على أهمية وجهة النظر السردية في الفلم السينمائي ، وتزداد هذه الأهمية إذ ما علمنا أن وجهة النظر ليست عنصرا مرئيا في الفلم كبقية العناصر التعبيرية ( اللغة السينمائية) وإنما هي تقنية ترتبط بنمط تقديم الأحداث .
أن عملية التصدي لمفهوم وجهة النظر السردية يشكل أساس جذريا لفهم بنية الخطاب المرئي لدى كل من كاتب السيناريو والمخرج على وجه الخصوص والعاملين في السينما بشكل عام لغرض إيصال فكرة العمل الدرامي على أكمل وجه ، ولكون وجهة النظر السردية تشكل الإطار العام الذي يحكم المجرى السردي فأنها تعمل على إعطاء العمل الفني قيمة أكبر على المستوى الدلالي. علاوة الى ما تقدم يمثل بحثنا الحالي دراسة جديدة تسهم في فهم فن الفلم وقراءته قراءة تحليلية جديدة بصورة مغايرة لما هو مألوف ،كما يسهم البحث في فتح بعض المغاليق في صناعة السينما بوصفها سردا يمر من خلال وجهة نظر باتجاه معين . ويشكل إضافة مهمة للمكتبة السينمائية ويعين العاملين في الميدان السينمائي على أداء مهمتهم على أكمل وجه.
وللأسباب المذكورة يكتسب هذا البحث أهميته .
كما يسعى البحث الى تحقيق الآتي :
1-الكشف عن التصنيفات التي تتخذها وجهة النظر السردية في الفلم الروائي.
2-الكشف عن الآليات التي تحكم اشتغال وجهة النظر وعلاقة هذه الآليات ببناء الحدث الفلمي .
ويتحرك البحث في منطقة لها حدان :
أولا: حد نظري ويتمثل في كل ما كتب حول وجهة النظر السردية في ميدان السرد عموما والرواية والفلم بشكل خاص.
ثانيا : حد تطبيقي تمثل بثلاث عينات فلمية مختارة لأسباب سترد لاحقا عند التحليل ، والبحث غير معني بحدود زمانية ومكانية وهذه العينات هي :
اولا: فلم (راشامون- RASHOMON)، اخراج : أكيرا كيروساوا، سيناريو : أكيراكيروساوا وراينسوكي أوكتاكاوا
ثانيا: فلم (الكمان الأحمر-The Red Violin)، اخراج : فرانكوس جيرارد، سيناريو : فرانكوس جيرارد ودون مكلر
ثالثا: فلم (المشبوهون المعتادون- The usuall suspects)، اخراج : برايان سنكر، سيناريو : كريستوفر مكواير
يبدأ المؤلف الفصل الاول بمدخل الى وجهة النظر السردية حيث يتناول (وجهة النظر السردية المصطلح والمفهوم) حيث نتعرف على ابرز المصطلحات والمفاهيم الخاصة بوجهة النظر السردية واشتغالها في الخطاب الروائي من ثم نتعرف على نمطين من لسرد الاحداث في روايه (مادام بوفاري) كمثال روائي.
اولا: وجهة النظر المشهدية. ثانيا: وجهة النظر البانورامية.
ويبين لنا المؤلف ابرز الاراء الفلسفية في موضوع السرد الذاتي والموضوعي عبر المرور على ابرز ماكتبه المنظرين مثل توماشفسكي، ونورمان فريدمان ودرجة الموضوعية ، جان بيون ووجهة النظر وعلم النفس، تزديفان تودوردوف- الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج، جيرار جينت ودرجات التبئير وغيرها من المواضيع الهامة التي تبين للقارئ ابرز المفاهيم الروائية التي استمد منها الخطاب السينماتوغرافي ملامحه الروائية .
اما الفصل الثاني (وجهة النظر في السينما ودلالاتها) يسرد المؤلف عن وجهة النظر مابين الذاتية والموضوعية، بعدها يشررح المؤلف (سردية الكاميرا) على اعتبار ان الكاميرا هي الاداة السردية الاولى في السينما والتي نستطيع من خلالها التعبير عن وجهات النظر المختلفة (الذانية والموضوعية).
والفصل الثالث بعنوان( بناء الحدث الفيلمي من خلال وجهة النظر) يبحث في تقديم الحدث الفيلمي في المبنى السردي وفقا لوجهة النظر التي يتم من خلالها سرد القصة حيث يعرض لنا المؤلف اهم التقسيمات التي وضعت لانساق السرد من ابرزها (البناء المتتابع، البناء المتوازي، البناء المتداخل، البناء الدائري) وغيرها من الانساق السردية.ثم يختم المؤلف كتابه بالتطبيقات المتكونه من ثلاثة عينات فلمية مختارة ( الكمان الأحمر) ( المشبوهون المعتادون) ( راشامون)
مع تحيات موقع كلية الفنون الجميلة
م. ثامر جعفر احمد مدير وحدة الاعلام والمعلوماتية
اعداد وتحرير نوفل جنان فتوحي