الرجيم يحدق في هاوية
بقلم
فاروق سلوم
هو اؤه لوحته، رجلٌ يتنفس مغامراته كفضاء نهائي لحياته .
وهو بمشية الوحيدة، الرؤيا، فانيا ببقائه أو غيابه، مخلوق كاشف نتقشف، مخلوق مغاير لكل عقلانية. وهو رجيم لكل تلك المعاني المبددة للاسرارنا .
و بلاسم محمد يفعل ذلك كل نهار على دفتر سيرته:
يكشف ذلك الغموض، بغموض خاص يحمي شعلة ذواتها من العادي ، حين يرسم همجية الظلام في واقع صعب. إنه حين يعود من تجواله بين اجناس لا تحصى من التفجيرات العشوائية لحياتنا اليومية، يعود مثقلا بفظاعة الأمواج المعتمة التي تصخب في اعماقه لتشكل القشرة الرقيقة لبيضة اكتشافاته، كشعلة متقده داخل رأسه الإنساني الرخو.
في تعبيريته لاتبدو و بلاسم محمد متمظهرا ، ليس أسلوبيا، بل متعاملا صعبا يصنع عالما من سلالة مجاهلية، مغامر يحاول اكتشاف كنهه العميق دون هواده، فيأتي بعدته ليسميه.. يغدو العالم صنيعه. انه يختار طريق المعنى الذي ينقص صراعات الإنسان المتصلة، وان اتخذت تلك المغامرة شكل هاوية تنفتح دونما حدود. لكن الرسام يضيء القوى العمياء التي تحيط تفاصيل مشهدنا المتداعي.. انه يضع تفاصيل الحياة تحت مكبر فنتازيا نادرة!
ليجعلنا نرى مالم نره من معان لحضورنا، في غمرة انشغالنا البدائي بالخبر
كمضمون نهائي لكدنا ووجودنا..
أقول، انب لاسم محمد معرضه الجديد، وهو يعرض تنويعات رؤاه وكشوفا ته، استطاع إلى جانب ذلك أن يمارس ذلك الإصغاء المرهف لإيقاع تلك الأساليب المتعددة التي تأمل حدودها الإبداعية فنيا وتاريخيا.
وقد اجترح أسلوبا من الخطوط الرشيقة الصافية، من الصرامة والانفعالية، ليبقى بعدي السطح التصويري بصفتهما بعدا الوعي بالحقائق التي تلامسها اللوحة وخواصها . إنهما مجال الحدوس المنطقية لتلقينا اثر اللوحة . ومع أن التمثلات بين العناصر الأسلوبية للكثير من الرسامين لاتنِ تعلن مرجعيتها الفنية إلا ان حساسية بلاسم محمد في توكيد ملاحمه الأسلوبية قد صنعت ذلك الرجع الخاص الذي يميز اسلوبه وتقنيته ولوحته. انه لايدور في محيط تعبيري محدد بل يستعين بالأشياء لتقول ذاتها بأسلوبها التكويني الخاص داخل اللوحة وهو بهذه الطريقة يحرر نفسه من كل نمط أسلوبي.
انه نوعه الخاص في تجسيد اللحظة الحية في لوحته.
الرسام الرجيم هنا وهو وصانع تلك الإشكالية التراجيدية لبقاء وتأثير العمل الفني فنياً . اللوحة التي تستحضر عناصر الذاكرة وتحويل ذلك المنجم البدائي القديم الذي يمد الذاكرة التشكيلية إلى لمسة روحية لكل كشف حاضر . أي انه متجذر في الحس برغم ولائه لحاضر نابض وعقيم مرهق..
العالم الذي يعذب الرسام في أعمال بلاسم محمد هو عالم مؤثث بطريقة جارحة وعشوائية عنيفة وسيئة ، وحين يحاول ان يجعل من كل تلك التناقضات تحت مجهره طريقا إلى تجانس رؤيانا ونحن ندقق في لوحته فهو يأخذنا الى تكثيف ذواتنا وينشد وحدة الحلم في التنافذ والتجانس الجمالي.
حين قلت أن الرسام مغاير لكل عقلانية فأنني اعني انه منجم حدس الأشياء وعلاقاتها بشكل نمطي يخلو من كل خيال ويقتل فنيا طاقة الفنتازيا الخلاقة .
انه يعلمنا ان المخيلة ماهي الانتاج التأمل الحر والأسئلة الكاشفة لاألأسئلة التعجيزية التي يطرحها مشاهد يؤمن بأن العالم مجموعة حتميات وتعريفات مقفلة وارقام تحدد سيرته بين الحياة والموت .
انه يعلمنا كيف نقيم معمار صورتنا وهي تكف عن انتمائها الزمكاني لتكوين ادراك بصري يمدنا بالكيفية التي تظهر بها الاشياء في مخيلتنا لاكما هي في واقعها الأجرد من المعنى ومن الحدس. ان معرضه هنا يحزنا لكي يكون فكرنا الحدسي هو المنظم الأول لفوضى مخيلتنا حين تزدحم الاشياء بمراوغتها ولا نطلب من العقل إلا طاقته التنظيمية . هنا يكون الحدس مثل طريق خلاص من النمطي إلى الفنتازي حيث تبدو اللوحة وقد غمضت أو تشوشت او تلاشت دلالاتها حتى يسمح للوحة أن تأخذ دلالتها لدنيا من تأويلها.
حين أتأمل أعمال بلاسم محمد اليوم، واستحضر تنوع خبراته الفنية و الاكادمية ، أحس بوقته العظيم لأنجاز صورة ما، مثالية، غائمة ومجهولة يتمنى أن ينجزها يوما. لكنه لو فعل ذلك سيحكم على فن الرسم بين يديه بالفناء . وهو يعرف بقوته السردية اللغوية الماحقة ومخياله المحلَق في فضاءات غريبة أن أفضية الروح تنطوي على نصوص متعددة ومتناقضة لكل مشهد وان للروح طاقة عجائبية لا يمكن تنميطها في مشهد نهائي ووحيد.
انه يعلمنا في كل مشهد مرة يعلق فيها لوحاته أمامنا إن المبدع تخيل مطلق..
وتجوال حي ولانهائي بين عناصره لأن المتخيل حين يعني الفن بتجسيده .. فأن طاقة الإبداع ستمضي إلى قدرها وسنحكم على خيالاتها بالزوال وهي عدتنا الروحية الوحيدة لكي نحب!
الرسام الرجيم يقف على حافة هاويتنا .. لأنه يكشف جوهرنا بقوة الجمال!