إشكالية التلقي بين التشكيل ومتغير صور الفضائيات
بقلم
الأستاذ الدكتور جبار العبيدي
مقدمة:
يتبنى البحث إشكالية التلقي للأثر الفني التشكيلي مقارنة بعمليات التلقي للصور المرئية في القنوات الفضائية التي انتشرت بحكم التطور الاتصالاتي الهائل في عالم التكنولوجيا والمعلوماتية وأنظمة شبكات الانترنيت، يضاف إلى ذلك عنصر الصوت المرافق لتلك الصور المرئية في هذه الفضائيات.
الإشكالية هنا تتمثل في كيفية بقاء الأثر الفني التشكيلي وإمكانيات بقاء واستمرار فرص التلقي المناسبة والمؤثر بالمتلقي، إذ ما قيست بعمليات التسارع اللا منتهي للصور في القنوات الفضائية. خاصة وأن هذا الأثر الفني التشكيلي يتميز بثباته وبقاءه كأثر فني يعمل فنانوه على تأكيد سمة جعله أثراً فنياً خالداً، لا حراك فيه، إلا في بعض تجارب الفنانين المعاصرة التي تجاوزت ذلك الثبات للأثر الفني.
إذن تكمن المشكلة البحثية هنا في كيفيات رصد تلك الإشكالية وماهية حلولها على مستوى التشكيل الفني، خاصة وأن مثل هذه المواضيع تعتبر حية ومتجددة بحكم التطورات الهائلة في الضفة الأخرى من البحث “صور الفضائيات” وهو عالم نعيشه جميعاً، ولكن قل من يدرك هذه الإشكالية وحيثياتها بشكل عام؟ وقل من يعمل على حل هذه الإشكالية دون المساس بالأثر الفني ومواصفاته التقليدية. والعمل على تحقيق الهدف البحثي المتمثل في محاولة حل هذه الإشكالية.
في حين تتمثل أهمية البحث في كونه يعمل توثيق انتباهه مهمة في عالم المعرفة والثقافة والاتصالات المتقدمة، وكذلك يعمل على رصد تلك الظاهرة والتعرف على المحاولات الخاصة بالتشكيل للحاق ولو بجزء يسير من سمة المتحول والمتغير في صور الفضائيات.
تجربة التلقي في التشكيل والفضائيات:
تتميز التجربة الجمالية في التشكيل الفني في كونها ترتبط بعدد من العوامل أهمها النتاج الفني والفنان ومتلقيه والذائقية الجمالية التي تسود في المجتمع ، فالنتاج الفني يرتبط إلى حد كبير بطبيعته الذوق السائد وفقاً لطبيعة الفكر السائد الضاغط في اتجاه ترجمته ، في محاولات إبداعية متعددة منها التشكيل الفني وغيره من الفنون ، فالنتاج مرتبط بطبيعته الفكر في معظم مراحل الحضارات القديمة والوسطى والحديثة، فهو ينعكس بلا شك في جميع مستويات الحياة ونشاط المجتمع. فلو نظرنا بشكل سريع إلى إنجازات تلك الحضارات ، لوجدنا أنها جاءت لتترجم الفكر كل مرحلة من مراحله وهذا ما نشهده في إنجازات حضارات العراق المتعددة وكذلك في حضارات وادي النيل وحضارة الأغريق. ومن ثم الحضارة الإسلامية ومن ثم في فنون وإنجازات أوربا الحديثة والمعاصرة وترتبط التجربة الجمالية وذائقيتها بطبيعة الضواغط الفكرية والدينية والاجتماعية والجمالية ، وهذا الارتباط ينعكس في مجمل العناصر المكونة لتلك التجربة الجمالية يخوضها المتلقون ، وبخصوص المتلقين يقول ناثان نوبلر في كتابه حوار الرؤية ((أما بالنسبة إلى المشاهدين .. مستهلكي الفنون، فأن المعنى يبدأ بالعمل نفسه، فالمشاهد يبدأ من حيث ينتهي الفنان)).([1])
((والمقصود بالمتلقي هنا تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته)).([2])
على أن عملية التلقي في هذا الموضوع ينطبق مفهومها العام بعمليات الإبداع على مجمل صفوفه وأنواعه.
أن عمليات التلقي هي العملية التي تتحقق فيها التجربة الجمالية في شقها الثاني بعد إكمال أو اكتمال وعرض العمل الفني، ليتم أو لتبدأ عمليات التقدير الجمالي ونظرياته المتعددة.
وتختلف الأعمال الفنية التي يحقق المتلقي لها عمليات التلقي إذ تتنوع بين أعمال فنية موضوعية (محاكاتية) وبين أعمال فنية شكلية (جمالية بحتة) . فالفن في كثير من مراحل تطوره قد جاء بأشكال فنية تحاكي فكر أو أفكار بطريقة مباشرة وفق موضوع معين من خلال موضوع ماثل أمامنا كما يقول ذلك جورج سانيانا في كتابه الإحساس بالجمال.([3])
أو أن يكون الموضوع الفني قد جاء ماثلاً أمامنا وفق صيغ خارج سياقات المحاكاة أو التشبيه، حيث يأتي مجرداً من خصائصه الشكلية التقليدية، وفق نظرية الشكلانين الروس، أو وفق نظرية الفن للفن، والتي تعني.
((أنها وقعت في الأسر الفني المتواصل، متوافقة في نزعتها الجمالية في صيغة الفن للفن)).([4])
على أن هناك تحولاً جذرياً في طبيعة التلقي وسياقاته ونظرياته، التي كانت تعتمد في قوامها العام على أن يكون التلقي وعناصره يتمثل في العمل الفني والمتلقي والذائقة الجمالية السائدة في مجتمع ما أو محيط ثقافي وحضاري ما، وأن تكون الأهمية وفق هذه العوامل الثلاثة. وقد اختلفت في ذلك نظريات التقدير الجمالي دون المساس بآلية التقدير، ونعني به أن يكون المنجز الفني أو الخطاب أو النص التشكيلي في حالة ثبات لا حراك فيه. ألا اللهم باستثناء بعض التجارب الفنية التي فعلت أو أوجدت الحركة في التشكيل الفني أمثال تجربة الكسندر كالدر ومتحركاته الفعلية في التشكيل التي أسماها نحتاً، أو تجربة نصب الحادي عشر من أيلول الذي أنتج من مادة الضوء.
ولو عدنا إلى نظريات التقدير الجمالي ، لوجدنا أن النظرية الموضوعية تعمل على تأكيد واشتراط وجود القيمة الجمالية في “الموضوع الفني” وهي لا تأبه بالمتلقي في شيء. رغم أنها ((النظرية الموضوعية)) لها ثلاث نظريات ضمن نظريتها وهي نظرية السمات المصاحبة والنظرية الحدسية والنظرية التعريفية.*
في حين ترى النظرية الذاتية، والتي هي النظريات المهمة في نظريات التقدير الجمالي، أن القيمة الجمالية تكمن في “ذات المتلقي” وهو الذي يمنح العمل الفني قيمة جمالية مهمة ، إلى أن جاءت النظرية النسبية التي أكدت على ضرورة الموازنة بين النظرية الموضوعية والنظرية الذاتية كحل وسط.([5])
وفي كل النظريات الخاصة بالتقدير الجمالي من موضوعية وذاتية ونسبية نرى أنهن يؤكدن على طرفي التجربة الجمالية، العمل الفني والمتلقي مضافاً إليها الذائقية الجمالية السائدة. في حين قد حصل تحول، بل تحولات جوهرية في طبيعة وتصورات عمليات التلقي والنظريات الخاصة بها، إذ نرى نظريات التلقي الجديدة بضرورة تجاوز أو موت المؤلف في أولى شروطها ومن ثم غياب النص أو تهميشه ثانياً، بل وفي نسق العلاقة الجدلية بين النص ومتلقيه ثالثاً، وفي إحالة المتلقي وتصوراته وتأويلاته في غياب النص أحياناً، أو اقتصاد دوره على إثارة التجربة الجمالية دون دور بذلك رابعاً، والعمل على تأكيد العلاقات والرؤى الجديدة للمتلقي وعمليات توالدها ليساهم بشكل فعال في تنصيص النص وإحالته وفق ما يراه مناسباً في تصوراته خامساً.([6])
لقد فهم “ياوس” التفسير على أنه نشاط القارئ في فهم النص وكذلك الشأن بالنسبة إلى “أيزر” الذي ذهب إلى أن المعنى لا يستخرج من النص، أو تشكله المفاتيح النصية. بل الأحرى أنه يتحقق من خلال التفاعل بني القارئ والنص والتفسير عندئذ لا يستلزم استكشاف معنى محدد للنص، وفي هذه الحدود تبدو نظرية التلقي منقطعة عن نظريات التفسير الأقدم.([7]) والتي كان قد أوردها وحددها ناثان نوبلر في كتابه حوار الرؤية التي تعتمد عناصر التجربة الجمالية ممثلة في العمل الفني (النص) + المتلقي = التجربة الجمالية.([8])
((وكان الاهتمام بالقراءة والقارئ شاغلاً للكثير من الدراسات النظرية كالدراسات المبكرة لفرجينيا وولف عن القارئ العادي، ودراسات الاتجاه المعروف بنقد استجابة القارئ ودراسات الاتجاه البنيوي الذي أهتم بعملية القراءة ولاسيما (تودوروف ، ورلاون بارت) ودراسة السيمولوجيين ولاسيما (أمبرتو أيكو) . ولن يقف البحث إلا على النظرية التي جعلت فعل التلقي محوراً لمفاهيمها النظرية والإجرائية من بين اتجاهات ونظريات ما بعد البنيوية وهي (نظرية التلقي) التي فسحت المجال أمام الذات المتلقية للدخول في فضاء التحليل، وإعادة الاعتبار إلى (القارئ) أحد أبرز عناصر الإرسال أو التخاطب الأدبي)).([9])
وفي خضم عمليات التحول في دور المتلقي وتلقيه يتضح لنا الدور الريادي للمتلقي في عملية التلقي تلك، التي ما انبرحت في أن تكون مقتصرة على المتلقي دون سواها في بعض النظريات الجديدة.
وقد يفقد التشكيل الفني وتجربته الجمالية أحد أهم عناصر التجربة الجمالية من حيث الأهمية وبنيتها المعرفية والذوقية في تلك التجربة، فالنتاج ما هو إلا مفتاح التفاعل البناء مع المتلقي، أن لم يكن أحياناً بدون ذلك النتاج، وبناء على ذلك يتعرض التشكيل الفني واشترطاته وتأسيساته وأساسيته في التجربة الجمالية إلى الاقتصار على دائرة تلك التجربة الجمالية أو على أهميته وفعاليته بأقل تقدير. إذن التشكيل في محنة من حيث دوره وسياقات التلقي له من قبل المتلقي الجديد، المشارك، المتفاعل ، المساهم في بناء النص التشكيل وخطابه أن صح التعبير في عمليات التلقي الجديد.
وما بين محنة التشكيل الفني تلك، ومحنته في سكونه وثباته وعدم قدرته على الحراك والحركة إلا ما ندر عند كولدر وبعض النصب الضوئية، يكون التشكيل الفني قد واجه مصيراً مجهولاً في عالم التلقي وخطابه، خاصة وأن هناك صورة واحدة فيه ثابتة أمام أعيننا ، لا حراك فيها، ووفق نظريات جديدة للتلقي تهمش هذا الفعل الإبداعي التشكيلي، وتعمل على تفعيل متلقي هذا التشكيل ونصوصه وخطاباته، وأن كان هذا التشكيل الفني وخطابه الإبداعي، يمثل أثراً فنياً نعمل على تخليده رغم تحول المنحى والاتجاه بالضد من ذلك، إذ عملت كثير من الاتجاهات في فن التشكيل على تأسيس فنون لم يعد همها ولا أهدافها في تخليد الأثر الفني، بل عملت على إنجاز نتاجاته ليوم أو ساعات عرض سريعة ولمرة واحدة (Disposepole) كأن يكون هذا التشكيل الفني معداً من خامات جديدة أو تقنيات جديدة قوامها التقنيات الرقمية “ديجاتيل” وذلك في خلق فضاءات افتراضية يعمل المتلقي على الدخول واللعب والتلاعب والإنشاء لمشاهد وتكوينات افتراضية من خلال تقنيات جديدة في عالم الفيديو أو الفيديو كليب.*
إذن بدأ التشكيل الفني المعاصر يعي محنته والسعي إلى اللحاق بعالم التقنيات الحديثة جداً، هاجراً ثبوته وسكونه وديمومته وأثره.
وبين هذا التحول الهائل في عالم التشكيل الفني، يبرز لنا التقدم العلمي والتكنولوجي، والمعلوماتي والاتصالاتي متمثلاً بعالم الانترنيت والقنوات الفضائية والصور السريعة المتلاحقة التي لا يحدها حدود زمانية أو مكانية، فالعالم قرية صغيرة، نرى العالم بأسره من خلال شبكة الانترنيت ، أو نراه كذلك من خلال القنوات الفضائية المنتشرة بشكل واسع ومتنوع وجديد في عالم اليوم. عدد من الصور لا حصر له، لا حدود له متنوع بين أعمال درامية أو ملحمية، أو تمثيلية أو سينمائية، أو إعلانية كلها تشترك في قاسم أعظم هو الحركة المتسارعة في تغير الصورة، في تغير المشهد، في تغير المعنى وفق تقنيات (Grafic dision) هنا يتبادر التساؤل التالي:
هل أن هذا الكم الهائل من الصور المرئية المتسارعة الملونة المتحركة المسموعة، المتنوعة، الماثلة في بيوتاتنا بل حتى في غرف نومنا، وفي معظم أماكن تواجدنا، لا تؤثر على مستويات المتلقي لدينا كمتلقين لنتاجات التشكيل المعاصر، في ظل صمت هذا التشكيل وهدوءه وسكونه؟
حقاً أن التشكيل الفني في محنة أزاء هذا المنجز الجديد الذي يلاحقنا أيما نكون في المستقبل ، مما دعا الفنانين التشكيلين المعاصرين، إلى البحث في حلول لهكذا إشكالية ، إذ عمد البعض منهم إلى تحريك تشكيله وتفعيله وأقحامه في عالم الفيديو والفيديو كليب، وإشراك عنصر الصوت أحياناً في بعض نتاجات التشكيل الفني الجديد.
ومن خلال ما تقدم يمكن أن نصل إلى ما يلي:
1 – أن التشكيل الفني المعاصر في محنة تلقي دائمة ومستعصية.
2 – سعى التشكيليون المعاصرون في بعض نتاجاتهم الفنية إلى تحريك التشكيل المعاصر وتفصيله واللحاق ولو بشكل نسبي في حركة الصور المرئية المتلاحقة المتجددة في عالم الفضائيات.
3 – رغم تحول طبيعة التشكيل المعاصر وسكونتيه لم يشفع هذا بتراجع عمليات التلقي لنتاجاته.
4 – ساهم التحول في نظريات التلقي وتحييد التشكيل الفني وتفعيل دور المتلقي في التجربة الجمالية الجديدة، ساهم كل ذلك في زيادة عزلة التشكيل المعاصر، قياساً بالأثر أو التأثير الفعال ونتائجه على عمليات المتلقي للصور المتسارعة في القنوات الفضائية.
5 – غياب سمة الأثر الفني الخالد في بعض نتاجات التشكيل المعاصر، لم يجدي نفعاً باللحاق في ركب صور الفضائيات وتأثيرها في عمليات المتلقي (القسرية) على المشاهد.
قائمة المصادر :
1 – بشرى موسى صالح: نظرية التلقي، أصول وتطبيقات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2001.
2 – جيروم، ستولتيز: النقد الفني، ت: فؤاد زكريا، مصر، مطبعة جامعة عين شمس، 1974.
3 – سانيانا، جورج: الإحساس بالجمال، ت: محمد مصطفى بدري، القاهرة ، الأنجلو مصرية، بدون تأريخ.
4 – هولب، روبرت: نظرية التلقي، مقدمة نقدية، ت: عز الدين اسماعيل، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، ط1، 1994.
5 – كريمة حسن أحمد: تحولات التشكيل في النحت الأمريكي المعاصر، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، 2007.
6 – ناثان، نوبلر: حوار الرؤية، ت: فخري خليل، مراجعة: جبرا إبراهيم جبرا، دار المأمون، بغداد، 1987.
([2]) هولب، روبرت: نظرية المتلقي، مقدمة نقدية، ت: عز الدين اسماعيل، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، ط1، 1994، ص7.
* أنظر : جيروم، ستولتيز: النقد الفني، ترجمة، فؤاد زكريا، مصر، مطبعة جامعة عين شمس، 1974، ص588-599.
([9]) بشرى موسى صالح: نظرية التلقي: أصول وتطبيقات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2001، ص33.
* أنظر: كريمة حسن أحمد، تحولات التشكيل في النحت الأمريكي المعاصر، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، 2007، ص112.