(( فن الاحتفاء باللاوعي المهمل ))

                                                             أ.د. عقيل مهدي يوسف

مغرم بالمغايرة ، والاختلاف ، هو غريزة مستقبلية ، كما اراه يتحول العالم في ذاكرته الكتابية ، الى لاوعي مهمل ، وهذا ما انتقاه عنوانا لكتابه المثير ( ذاكرة الكتابة حفريات في اللاوعي المهمل)

مالك المطلبي ، الاكاديمي ، والشاعر ، والكاتب ، آثر ان يستهل مدونته ، بفتح حوار صريح مع الكاتب الالماني غونترغراس ( النقاش الالماني البائس ) والكاتب الياباني كيزابروٍ – أوي ( المعرفة والمأساة ) – وهما يمثلان ثقلاً مادياً ، في عالم الادب الروائي ، وحقيقياً ايضاً .

لكن مالك اراد ان يبزهما معنوياً ، وافتراضياً ، بـ (( زيف اللغة )) لينتصر مثلهما لا بالاقتصاد ، بل بارادة  (( الكــلام )) !!

ترى في لاشعوره ضرباً من الانسجام ( هومولوجي ) ، يدفعه للتطابق مع الكاتبين المذكورين في بنية التشابه التي تخص الحروب ، والدكتاتورية ، والتحرير ، بين المانيا ، واليابان والعراق ، لكنها تبقى بنية ملتبسة ، ومفتوحة .

المؤلف يكتب اليهما ، بعد ان يثبت نصيّهما ، بدافع ( التماثل المدهش ) ، ويؤكد بمناورات لغوية ، بانهما سرقا افكاره ، وعّميا ذلك بنفوذهما اللغوي !!

وتستمر لعبة المخاتلة ، فيذكر انه قارئ بسيط وهما عملاقان !!

وينتفض لاشعوريا على الصغار المزعوم هذا ، ليعممه على بلده ( العراق) الذي لاوجود لعنوان الكتروني يخصه.

هنا يتوقف عند ماذكره الالماني عن الاحتفال بالتاسع من نيسان ، بصفته انتهاء الحرب ، ام بصفته يوم التحرير .

وتنثال تداعيات – مالك- عن عظم رصيدنا من الحروب ، والرهان على ديمقراطية من الخارج ، والحكم بوساطة بشر – آلهة . أو عن تناقضات جوهرية ، ترى فيها اجتماع الشتيتين جريدة العالم الامريكية التي طوت العالم ، لتستقر  ، ” الحلفاية ” حيث مسقط رأس مالك ، تحفّها اجواق الشيوعيين ، وهي تنشد اناشيد غامضة .

او يتذكر كيف سحلت الاجساد الملكية ، غداة الجمهورية في احتفال شنيع فاضح تبرز فيه الاعضاء التناسلية وسط شوارع تدين بالحياء الشرقي !! وتتحّسب لحرمة الموتى!! ثم ينتقل مالك من الكوكبية ، الى المحلية ، فيقف عند ما يسميها الهمهمة العراقية ، مستعيراً من صاحبه عبد الرحمن طهمازي : ( العقوبات في مفاصل الدوافع ) عنواناً ظلاً ، يريد منه تأكيد النزعة الهوامية ، والسادية ، للقطيع حين يخرج عن فطرته الانسانية ، كما نحسب .

ثم ينقر بقلمه في دهاليز الذاكرة ، ويقلب الاثار ، واللقى التي تشكل اصل الاشياء الحقيقي ، ليقوم باختراع سردياته لها ، بما يضفيه عليها من اخيلة ومعاني ، وانساق مترابطة ، كانت اصولها متآكلة ، او مفقودة ، بفعل التقادم.

ولكي لانقع في احبولة النص ، نؤثر التحرر من عنواناته التي لابديل عنها ، سوى اعادة قراءتها ، لما تمتلكه من جاذبية لغوية جذلى ، متفوقة ، موحية.

لنحاول ان نجمع ما ان تناثر من احجار كريمة ( لغويـــة ) من ( غريزة المقهى ) و( لاوعي الفندق القديم) و( تأسيس البنطلون ) و ( صياغة العقائد) و( الرقص العام) .

الفضاء هو الحلفاية ، العمارة ، ( اما ميسان : فهي شكل براق على محتوى فارغ – كما يقول) .

وبغداد ، الجامعة ، المقهى ، الشارع ، وهي تزفر حين تشهق العمارة ، في ذاكرة الصبي الذي  .

مالك يقع في برزخ ” الطبيعة” – الخليقة الاولى و” الاصطناع” الذي ، تؤسسه المدينة ، بمجازاتها وكناياتها ، وكأنها من اقنعة ” الموت ” !!

محور الطبيعة ، حيث الانفتاح على الحياة ، ومتعتها ، ولذائذها ، ومحور المدينة ، حيث التدريب على كيفية ملاقاة الفناء .

ويبقى الفردوس في الحلفاية ، هناك حيث يذهب المسيحي الى كنيسته ، واليهودي ، الى توراته ، وعيادته ( كما يذهب داود كباية أشهر طبيب يهودي ) ، والصابئي الى مصوغاته ،  والمسلم الى مسجده .

هناك ابتدأت بوادر ظهور زغب الجرأة في ارادة مالك..

واتضح انقسام الحياة ، الى ذات وموضوع كان مدير مدرسة المشرح ( رمزاً ) اكثر منه ( حقيقـــة ) .

وبخفقــة ( فرويدوية) يوصفه ( مالك) : انه ملك لا وعينا وابونا المخيف ! ثم بنزعة( جوجول) الكاتب الروسي المغرم بالمعطف ، او بالانف في قصصه القصار اوما اشتهرت به كوميديا الفن( كوميديا دى لارتا) الايطاليــة، التي عرفت باشهر ابطالها ( بانتلوني) ، يقوم مالك بتدبيج الاتي 🙁 كان عدد البنطلونات سبعين ، ثلاثون منها للهيأة التعليمية ، في المدرسة الابتدائية للبنين ، واربعون لموظفــي الادارة المحلية ! )

وبانعطافه كوميدية لاذعة ، يتذكرها من عاش تلك الحقبة، وما كان يتزياّ  به الشرطة ، يعقب الكاتب: ( اما بنطلونات الشرطة القصيرة ( فوق الركبة) فلم تكن لها علاقة بالبنطلونات !) ويدخلنا في دوامته وهو يبلغنا عن  سعار الجائزة ، الذي اصيب به الفتى ، المخصصة لمن يرتدي البنطلون  قبل غيره .

(( لا أحد كأبي له القدرة العقلية في تقبيل فكرة التحول المفاجئ في الزي )) ثم يستذكر الكاتب حكايته مع راضي الخياط ، الذي كانت ابتسامته الجانبية ، تربك طفولة الكاتب ، الذي استنجد بوجه ابيه ، ليجد ابتسامة ايضا ، لكنها ( كانت رحيمة ، ليست كتلك الشيطانية لفم الخياط ) ثم يتابع حكايته مع الفراش، المعلم ، المدير ، وزير الداخلية ، بهجة العطية ، والطفل يجيب ( بالحقيقة) عن اسئلة ( مجازية) !

وهنا يظهر في جلد الطبيعة الريفي ، اول اثر للصناعة المدينية  وتكثر الاعشاب البرية داخل العقل الفطري ، ويتنامى الاحساس بالمغايرة ، واختلاف العقائد ، والا ( فالسمكة في النهاية ليست الا موجة ماء لها غريزة !)

من خابية ماء الصائبة ، في المدرسة الابتدائية ، ادركته العقيدة وهو يبلّ جحيم عطشه بقطراتها المحرمة على مثله !!

وكما رفع مالك ببنطلونه اول مرّة ، هنا يرفع للمرة الثانية حيث يحفّ بموكبه حشد من الصبيان ، ويقول بالنص :

تمّ ( … رفعي الى السمــــاء ) كانوا يطوحون به بالفضاء ، وكأنه طائراً يسبح .. ( حتى رفعت الى الاعلى ) .

ثم يصل الى( التعميد ) الرمزي ، بوساطة ماء النهر ، ولايتعرف على مغزاه الا حين كبر ( .. لأعرف ان ماكان يثير دهشتي من افعال التعميد الغريبة لدى ( العقيدة الاخرى ) هو الذي انقذني !) ليطهره من الدنس !!

تداخل الانثروبولوجي ، بعد حين ، مع المعرفة ، التي كانت ، كما يقول الكاتب :

( اشبه بوشوشة داخل ( الطبيعة المغلقة) التي هي نحن .)

ثم يسرد الكاتب امثولة ( شعلان) الذي باغتته الجمهورية الجمهورية ليرى نجيب الربيعي ، قائده في الجيش ، بات الان ، رئيس مجلس السيادة الجمهورية العراقية !! هنا تأخذه اللغة الى دواماتها وبلعبة ( التنضيد ) كما يسميها الكاتب ، اذ لايرى ( شعلان موزان) أي فارق بينه وبين نجيب ، لانه ( آمر اللواء الذي كنت اخدم فيه) ولم يدرك ، هذا الجندي المستجد ( خداش ) كما علق الوالد ، بان بينهما تراتبية ، ذات زمن ضوئي !! عاد منكسراً على سطح باص خشبي من العاصمة ، لانه لم يفلح بمقابلته ( الربيعي ) !! او مشاهدته بالعين المجردة !!

ولكن الكاتب الماخوذ بغريزة القلم ، لايترك شعلان لزوجته ( جميلة ) !! التي خسرت حجل فضتها ، لتوفر له عشرين دينارا ملكياً ، مختوماً بالدمغة الجمهورية ، ليزجّه من جديد في مأزق آخر ، يسرق فيه اللصوص ( مزويته) !! ويتابع منعرجه من الواقع حتى تخوم الخيال!!

( زم شعلان فتحي التاريخ الشفوي ، ثم فتحهما : شفتكم !) وهو يتحدى بكلامه السّراق !! شعلان يتخلى عن( ماديته) هنا ، ويتحول الى كائن أثيري ( معنوي ) يقول الكاتب:

( لم يعد قاموسه ينطوي على ( مزوية) من خيوط الجوخ ، والأسلاك المذهبة : بل مزوية اشارية صرف ! الكبرياء منطقة إشارات وليست منطقة مواد .)

ويضيف ( هنا يعمر التاريخ بعينه للطبيعة) اذ ينظم اللص ، مع شعلان ، الى الجمع ، لتوحدهم الطبيعة ، وهم يهزجون ويهزون أجسادهم بحرية ، لاتعرف القيود ، الا قيد الانسجام ثم يتحول العالم في بغداد ، الى منظور آخر ، فالفندق يحمل اسم العمارة لكنه بات عالمياً ، وبتسعيرة مخجلة!

تعيش في جنباته حيوات تنتقل من السطح ، حيث تلذعها ساعة الشمس ، ليتكدسوا في افياء الغرف وتدور حول أنوفهم الروائح لأصناف من الأطعمة المشوية ، وسواها يجلبها النادلون ثم ينتقل الكاتب الى طور اخر ليمسك بتلابيب ” المقهي” فيحولها من مكان شبه عام تلتقي فيه خلائق ، مختلف اجناسها ، الى كائن حي!! يقول عنها  بانها حشد من الحيوات ، وهي طبقة من طبقات الذاكرة ، ويستطيع علم الآثار الذهني ، القيام بمحاولة تفكيك ( دال ) المقهى القديم ، المكون من آلاف الخطى التي أمحت في فراغ الكنبات .

هذا الجسد البشري الذي اسمه  مقهى يتحول الى  مايشبه ( سيارة) يتخاطب فيها الناس ظهراً لوجه ، اذ انها فناً فطريا بزركشتة ( الفولكلورية) ، او كانه راساً حسيراً !

( كشف ( مقهي) حسن عجمي رأسه : عن حبال ينشر عليها نزلاء الفندق غسيلهم)

او تتحول المقهي الى شارع تماماً ، فجدرانها من زجاج ، مشاعة للجميع .

ويدفع الكاتب مقهي البرلمان ، الذي حفظت فيه التقاليد الأدبية، الى أقصى ذراه ، حين يضيف ( حتى صبيحة انتحاره !)

اذ صار ( ترانزيت) عتبة عبور ، لتتقطع أنفاسه ويموت!! ثم يذكر الحدث الجلل ، اذ اخترقت تابو  المقهى الرجولي ، أنثى قاصة ( بثينة ) ، حيث ازدحمت العيون عليها ، وكأنه عصراً جيولوجياً حصل في تاريخ المقهى ! ويذكران هناك مقهى ( المعقدين) الذي شكل إشاعة في إمبراطورية المقاهي ثم يترنم الكاتب بقصيدة : سار النهر والشارع ، كتفا الى كتف .

وهكذا سجلت المقاهي ( سير ) الأدباء ، بأمراضهم النرجسية :

( الرغبة في التشاعر مرض متأصل في الإنسان) كما يذكر .

لأنهم يريدون الذهاب بعيداً الى أقاصي الحلم ، او المطلق ، وهذا هو مايفعله الشعر يفضح الكتاب ، مضمونات متناقضة فيها ما يتعلق بالتقليد والحداثة والإبداع والايدلوجية ، والذكورة والأنوثة ، والطبيعة والثقافة ويصف الكاتب نفسه وكانه شخصا مترسبا من انشطار العصر الجمهوري ويـــرى بجذل عودة ( الفلسفة) الى الوراء ، ثم يعقب ! ( وهذا هو مكانها الطبيعي ) .

هل تراه ، هنا متعلقا بغواياته ( اللغوية ) : ام تراه نافراً من المحمولات المعرفية ، والحقائق الموضوعية في الفلسفة ؟!

هنا تتشكل متعة الأدب ، من الأنماط ، والمظاهر السردية للكاتب المتطابق مع الراوي نفسه ، وهو يحاول استنطاق ” الأثر ” عابراً فجواته ، بعلائق لغوية مجازية ، وكنائية ، تضخها الذاكرة ، المتعالية ، وكأنها تولدّ معانيها المحتملة ، بتعبيرية ، ومثاقفة مع فن القص عند( جوجول) و( تشيخوف) وحكايا ( الجاحظ) ويتنقل من مدونة الوقائع اليومية ، الى فضاء الكتابة ، بشحنة من التأويل ، الذي يرصد التداولية السياسية ( الملكية – الجمهورية ) ذات المظهر المتقطع ، لكنها موصولة في الباطن ، اذ لم تتغير مهيمنات المجتمع العشائرية ، والدينية ، والأيدلوجية ، والطقوس انثروبولوجية ، وبقيت راسخة لاتريم !

استنفر – الكتاب –فنية الكتابة الخاصة بالقصة القصيرة ، باختبار الشخصية ، وطريقة رسمها ، وتجاوز مرجعياتها الواقعية ، بتفكيكها وفق وصفيات سردية ، ودرامية ، وشفرات تخيلية جديدة ومبتكرة ، عززت من المسافة الجمالية ، للتلقي ، عبر لعبة تحولات النص. الذي سرعـــان ماتنتهي حوافزه الدينامية ، الى توتر ، ومن ثم الى( فضيحة) يتشكل منها ” الحل” الدرامي.

استطاع الكاتب بوعي جمالي – فلسفي ، ان يقدم ” الواقع” بطريقة شعرية ” مغايرة” لمرجعياته المادية .

                             

 

 

 

Comments are disabled.