(( تجربتـــي في جمهورية بلغاريـــا))

 من المفيد ، ان يذهب الباحث على مستوى الدكتوراه الى دولة متقدمة علميا في مجال تخصصه المعرفي الدقيق ، وهو متسلح بخبرة ميدانيـــة في هذا الحقل حين وصلت ( صوفيا) دخلت معهد ( جمال عبد الناصر) لتعلم اللغة البلغارية ، للطلبة الاجانب ، وكنت حينها معيداً في اكاديمية الفنون الجميلة في عام (1977 ) .

كنت متحمساً لاكتشاف” المسـرح ” في بلغاريا .. فوجدت ” مدرسة ” حقيقية للشعب ، يؤمها الناس ، يوميا ، وبكثافة لافتة للنظر ! وحتى اقرب الصورة الخاصة بفعالية المسرح هناك .. وحسب تجربتي في مشاهدة العروض ، كنت ( بهويتي 9 الخاصة بمعهد ( V. T. S )   ادخل بلا تذكرة وهي خطوة نادرة – لاي مسرح اشاء ..

ابتدأت بالمسرح الخاص بالمعهد ، الذي يقدم عروضه طوال العام الدراسي ، تتنوع فيه العروض اسبوعيا ، وهي من اخراج اساتذة ( الفيتــس ) المعهد العالي ، للسينما والمسرح في ( صوفيا) الذي اكملت اطروحتي فيه.

تضم عروضه مسرحيات من المسرح القديم ( اليونان ، الرومان)  الى المسرح الحديث ، وعلى وجه الخصوص المسرح السوفيتي ، والبلغاري المعاصر ، والعالمي وادهشني الحضور ، والسعر الرمزي لتذكرة الدخول ، ومرونة العاملين ومدراء المسرح ، وبراعة الطلبة من” الممثبين ” ، حيث ينتقي من بينهم الاكثر موهبة وابداعا للانخراط في مسرح الدولة القومي ، الاحترافي وكانت محطتي الاخرى ، في مشاهدة العروض هي المسرح القومي ( او الوطني ) المسمى باسم الشاعر البلغاري ( ايفان فازوف) .

وكان يديره البروفسور ( فيليب فيلبوف) وهو استاذ في المعهد – ايضا- ويقدم عروضه هنا ، وهناك ن وتستقطب عروضه اهتماما استثنائياً ، حين تعرفت عليه ن ابلغني بصوته الجهير ، انه يعرف ( يوسف العاني) وانه منهمك – الان- باخراج مسرحية جديدة ، بعنوان : ( بلغاريا تحت عصور من الاحتلال ) كان يتدفق حماساً وفرحاً

وتعزيز موقفه الوطني من قضايا الشعب

هذا المسرح الوطني …….. او

مسرح ( ايفان فازوف ) تحفة ، تحاكي ، الهندسة المعمارية للمسرح ( البولستوي ) في موسكو .. تعجب لعربة اثنا ، فوق واجهته ، وهي من روائع النحت ! وحين تدخل الى باحته ترى سلالم تقودك الى ( طوابق عليا) وبعضها الى( الاسفل) لمختبرات تجريبية في المسرح الرئيسي ، يقدم ( ريبورتوار ) يضم كبار المخرجين والممثلين ، والفنيين ، وكذلك يستعين بخبرات ( عالمية) واغلبها من( السوفيت) في بعض العروض التي تتطلب تكنولوجيا خاصة ، ومتقدمة ، كان تحلق امراة عجوز في الفضاء بين الغيوم ، او يهبط منطاد ، يحمل مجموعة من الناس ، او ترى امتدادات غير معقولة ، لغابات ومنازل ومنتجعات ، كانت السينوغرافيا ، والمناظر المسرحية متقنة الصنع ، ومتلاءمة مع الخطط الاخراجية ، باشكالها الابداعية المبهرة ، والمتفردة ! وما زلت اتمنى ان تتحقق في مسرحنا العراقي وحين ينتهي العرض ، بامكانك ان تقتني النص ، وفيه اسماء العاملين بالعرض ، ويزدان بصور فوتوغرافية للممثلين وللمخرج ، وصور تخطيطية للمناظر المسرحية في العرض .. كان البعض يتابع قراءة النص ، والمشاهدة ، اما – انا- فكنت حريصا منذ البداية على مشاهدة العرض ، وتفهم لغته المسرحية حتى لاانشغل عن جمالياته المبهرة ن وان لم اكن افهم – حينها-  جملة مفيدة من اللغة البلغارية !! وكنت اجاري القاعة في ردود الافعال ، في الدهشة ، اوالضحك ، حين يلتفت عليّ الجالسون في المقاعد القريبة ن ليشعروا بلذة ” المشاهدة ط والمشاركة ويمارسوا عدواها على الاخرين!! وغالبا ما تراهم شجعوا الممثل ، وهو يؤدي عمله الابداعي ، لاسيما بعد انتهاء العرض بكلمة : ( برافو ) والتصفيق الحاد ، وظهور الممثل عند التحية لاكثر من مرة .

كما قلنا ، ان مدير المسرح القومي ، هو استاذ في معهد ( V.T.S)  بالمناسبة ، كان هذا المخرج الكبير – فيليب فيلبوف – من الذين صوتوا بكلمة ( نعم ) على اطروحتي للدكتوراه ، وهو نفسه الذي اشرف على اطروحة الدكتوراه لزميلي المبدع( جواد الاسدي ) وكان الاستاذ البروفسور ( ستيانوف) من اكثر الاساتذة حباً بالتجريب المسرحي المعاصر ، وهو استاذ لزملائي المبدعين وهم ( فاضل السوداني) و( فاضل خليل ) ومن بعدهم!! الزميل ( محمد عبد الرحمن) والمخرج( عادل كريم) الذي اشرفت عليه البروفسورة ( لودميلا) والفنان الممثل والمخرج( حميد الجمالي) والزميل ( نصيف الدليمي) اما الكاتب المسرحي المعروف ( نوري الدين فارس) فقد كان سبقني الى قسم( علوم المسرح ) مع البروفسور الدكترو ( فلادمير تنف) والتحق بعد تخرجي ، الفنان والمخرج التلفزيوني ( طيف المدرس ) للدراسة. وكان المشرف عليّ البروفسور ( كانوشف) وهو من كبار اساتذة النقد في بلغاريا ، وهو الذي انتدب لاختيار العروض العالمية التي قدمت في( مسرح الامم) في صوفيا عام ( 1982 ) وكانت فرصة نادرة لي لمشاهدة عروض من اصقاع عالمية مختلفة واهمها (مسرح النو) الياباني .

لايمكن اختصار التجربة الخلاقة للمسرح القومي( ايفان فازوف) فكلهم من اساطين المسرح ، وفي الغالب ، حاصلين على لقب ( فنان الشعب) وهو لقب لايناله ، الا من قدم ابداعا حقيقيا في المسرح البلغاري ،  سواء في التمثيل او الاخراج كانت موازنة عجيبة في اختيار المؤلفين العالميين والبلغار وتقدم على مدار الاسبوع الواحد ، اكثر من ” مسرحيــة ” ومن المدهش ان ترى في المساء ” غابـة ” ومنتجعات مثل عرض مسرحية ” غوركي ” ( ابناء الشمس ) لترى في اليوم التالي مساءً عرضا لكاتب بلغاري يحلق منطاد في فضاءه او نجوم ساطعة في قبة فلكية !! وسوى ذلك كثير .

تعلمت في مساح صوفيا ، سلوكا ابداعيا واخلاقيا عند مشاهدة العروض ومن آداب المشاهدة ، ان تبقى صامتا ، بلا صوت مسموع ، والا لاقترفت ذنبا ، لايمحى ، ولانصّب عليك ، نظرات الاستهجان والتقريع ، والازدراء ، فالقوم هناك يتهامسون عند الضرورة القصوى وحالما ينتهي العرض ، ترى عاملات التنظيف ، ينظفن الصالة ويضعن ( شرشفا) كبيرا على صفوف الكراسي ، والعجب كل العجب ، ان خشبة المسرح ، لامعة ، نظيفة ، وان الزخارف في الشرفات الداخلية للمسرح ، والاطار الذهبي الذي يحيط الخشبة ( اطار المسرح) تبقى مزدهية مشعة ومتألقة على مدى العام!!  أي جهد نبيل ، وحرص وطني على تقديس ” الكلمة ” الابداعية ، والمشهد المسرحي المسئول ، والبناء ، حجرا بعد حجر ، ورقعة بعد رقعة ، وباليد البشرية المباركة ويأتي المسرح ( العسكري) الحافل بالاسماء المسرحية العالمية ، واذكر ان مديره استقبلني ليدخلني على المسرح نفسه في عرض مسرحية ( موت دانتون) ومن اخراج البولوني والمخرج السينمائي العالمي المعروف ( فايدا)

وكان من المعجبين هذا المدير للمسرح العسكري – بالجنرال ( عبد الكريم قاسم) على حّد قوله ، واكراما له ، ادخلني من بين زحام المتفرجين وجلّهم من كبار قادة الجيش البلغاري ، وجنرالاته ، والسلك الدبلوماسي ، وسواهم من الاهالي ، وهم يتكدسون خارج الصالة .

وهناك – ايضا – المسرح الكوميدي ( دموع وضحك) ، والمسرح ( الساتيري) هذان المسرحان الكوميديان يقدمان ارقى النصوص البلغارية والعالمية بلا اسفاف ، ويستضيفان فرق ( سوفيتية) وسواها ، واذكر مسرحية( روسية) كوميدية ، قدمت برشاقة موسيقية نادرة ، وظهر على الخشبة جسم ( قطار) وسكّته ، وكانه في محطة للقاطرات وبعد انتهاء هذا العرض المتكامل فناً ، وفكراً ، واداءاً ، قام مخرجه ، بتحيّة الجمهور ، بهيبة ونظافة في الملبس والسلوك وهو من تلاميذة ستانسلافسكي ، كما فهمت في حينها.

وشاهدت على مسرح ( الساتيـرا) الكوميـدي ، اروع عرض مسرحي عالمي يخص ( شانيه) لاسطورة ( دانتي) يظهر فيها ” الشيطان ” في البداية واقفاً مثل تمثال لاستقبال الجمهور على منصة ، ومصبوغ باللون الازرق ، وهو عار تماماً الا من الصبغ ، بجسد تماسك وقدوة فائقة على التحمل وعند العرض ، يقدم هذا الممثل ، مهارات عالية ، لاسيما حين يتدلى بسلاسل من عمق المسرح الى جنبات الصالة ، ويتخذ ” وضعيات ” متميزة مسرحياً ، العرض كان رائعاً ، بهارمونية التمثيل ، والتشكيلات الحركية ، واللون ، والضوء ، والموسيقى ، وحسن اختيار مكونات العرض المسرحي التجريبي ، المدروس بدقة وعمق .

وهناك مسرح  ( تجريبي ) ينحو منحى    المسارح الاخرى في اعتماد ( ريبورتورا ) او منهج عروض تتوازن فيه المسرحيات البلغارية ، والعالمية وبالرغم من صغره ، فكان يقدم عروضاً متميزة ، وباساليب اخراجية جديدة ، مبتكرة.

ومسرح ( الدمى ) ، وكذلك مسرح ( الشباب) ، ومسرح ( الاطفال) ومسرح( العروض الصامتة ) ، و( بيت) لقراءة القصص باداء فنـي متقن ومسرح ( الاوبرا) ، والمسرح ( الغنائي ) … ومسرح ( الباليـه ) .

واجتهدت طيلة وجودي ان اشاهد عروض مسرحية مختلفة في هذه المسارح ، ولكني لم افلح طيلة السنوات الخمس ، ان اغطي الكثير منها ، فما بالك بان لكل مسرح من هذه المسارح فضاءات جانبية داخلية ، تقدم فيها عروض خاصة ايضا!! في الوقت نفسه ، مساءاً ، او عند الصباح ، او عصراً !

اما الكتب المسرحية ، والمجلات الفنية المتخصصة ، فكثيرة ورصينة في الغالب وباسعار مغرية ، ويسجّل على بعضها ، قبل صدورها بفترة طويلة ن قد تستغرق العام، او اكثر من عام ، للحصول عليها وهي ذات الطريقة المتبعة في شراء التذاكر ، قبل فترة ، والا فانه الحظ هو الذي يسعفك في مشاهدة ، أي عرض ، كان يتاخر حاجز التذكرة المسرحية ، لاي سبب ، فيسمح لك بالدخول قبل ” دقائق ” من بدء العرض المسرحي ، اما بالنسبة لي فالامر يختلف . 

وجعلت جوادا ، يعلو في ” برجه ” البابلي الى ذرى الحضارة الرافدينية ( السومرية والبابلية والاشورية) ، وهو يتقطع الما على الضحايا في حين يبدو الطاغية هذا ، انسانا عاديا ، لايفرق عن سواه من البشر : يقول جواد لزوجته ( لورنا) الانجليزية :

جواد:      كيف يمكن لهؤلاء ( أي الجلادين) ان يقبلوا اطفالهم ،

            او ان ياكلوا كما ياكل الناس !!

ذلك ” الحوار ” يؤكد على ان قيمة ( الحداثة) هي قيمة حضارية وانسانية ، تتجاوز التخلف والتقوقع ، والرجعية، والجمود وان اشكال الصراع ، حين تخص الفن الحديث مع القديم ، تشبه العلاقات المعاصرة في صراعها مع العادات والتقاليد القديمة ، الميتة ، فالفن يصنع الحياة ، بمثل ماتصنع الحياة الفن… ولايمكن لاحدهما ان يبتلع الاخر ، لانهما يحوزان على صفات( نوعية) متفردة ، تخص كل منهما .

كانت مسرحية( جواد سليم) ” رؤيـا ” تخص ابداعات جواد التشكيلية يصغي لمعزوفة على” البيانو” تؤديها عازفة مبدعة ، او حين تداعب انامله ” الجيتار” ، بمثل ايقاعها العذب وبروزات قطعه النحتية الفذة ، او حواراته مع الاخرين وليس عبثا ،حين وضعت عنوانا عريضا ، اشبه بجملة موسيقية ، او لوحة حداثوية ، تحاكي روج جواد المتعالية ، لهذه المسرحية وهو : ” جواد سليم يرتقي برج بابل”

هذا البرج كنتية عن” الحريـــة” الشاسعة ، التي كان يحلم بها جواد للعراقيين اجمعين.

 
 

 

 

 

 

 

Comments are disabled.