((المقدمة الرصينة في السؤال اللاهوتي للرفاعي))

 أ. د. عقيل مهدي يوسف

يفخر العقل النقدي في العراق ان يؤسس لنفسه منهجا مغايرا لما تم تداوله من موضوعات مختلفة في حقل الفكر الديني ، وما يتصل بالأسئلة الفقهية (اللاهوتية) التي تواكب متغيرات مجتمعنا ، للخروج من مأزق الواحدية المركزية التي تخنق الإنسان في قوقعة مقفلة تتصادى فيها مصادرات معرفية منبتة الصلة بمهموم إنساننا المعاصر ، ومنحشرة في زوايا التاريخ.

يتصدى د. عبد الجبار الرفاعي لمثل هذه المهمة الثقافية الجليلة ، بما يمتلكه من مؤهلات تخصصية رفيعة المستوى ، ووعي موضوعي ، متفاعل مع المقاربات المعرفية الحديثة في هذا المجال الحيوي.

الأمر الذي يفتح آفاقا جديدة أمام المثقف العراقي والعربي ، ويشعره بالثقة في النفس ، ويعزز قدراته على اقتحام فضاءات شبه محرمة ، بفعل قوة العادة ، وهيمنة سلطة الوهم ، وشيوع المغالطات.

وما كان لنا ان نتصور ان ما يقلقنا من أسئلة جمالية ، وثقافية ، هي نفسها التي تقلق الجمهرة الفقهية ، ممثلة بطليعتها ، ومنهم الباحث والمفكر الرفاعي ، الذي قارب بمنهجيته المحدثة تمفصلات الخارطة الروحية وما يعتمل فيها من أحداث ووقائع وأفعال ، يدخل في نسيجها هذان البعدان ، الخارجي والداخلي ، بعد التراكم التاريخي وبعد الذات المفكرة الحرة.

الباحث الرفاعي في كتابه الموسوم :

     ((مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد))

يجمع جهوده الفكرية ، لينحاز الى حرية الفكر ، وحب الإنسان ، وتوقير الحياة الاجتماعية المنفتحة على غبطة الجمال ، والعيش النبيل.

ترى هذا في مطارحاته ، ومقابلاته ، ومقالاته الصحفية ، وتراجمه ، مما شكل لوحة زاهية غنية بمنظوراتها العلمية والأدبية المرهفة تارة بمقارعة الحجة بالحجة ، وتارة أخرى بالتلميح والإشارة ، او سحب البساط من الذرائع غير المنطقية المتوارثة عن جهالة لاعن فطنة ، من سالف ألازمان.

ومنذ عقود ندرس الجماليات في الجامعة ، ونحرص فيها تمام الحرص على تفكيك الخطاب الفلسفي بمفهومه العربي ، الإسلامي ، وتحفيز الطلبة على التأمل الحقيقي في الجدوى المتحصلة من الفلسفة لتحليل الفنون ، بوصفها تمظهرات للذات المبدعة ، ولم نكن نتوقف كثيرا عند علماء الكلام الا لماما لأسباب منها انغلاق مباحثه بلغة اصطلاحية قديمة وهي من المظنون به على غير أهله!

وكذلك عدم توفرنا على جهد فكري يغرينا بالوقوف عنده على مستوى منهجيته ، ولغته ، وتأطيره لمباحثه بتتبع تاريخي سليم ، وتمييز الأساسي منها من الفرعي ، كالذي نجده في مقدمة الأستاذ الرفاعي ، وتكثيفه الأكاديمي لموضوعاته.

يؤمن هذا المفكر بان الكائن المتحول هو الأمر الطبيعي في ناموس الحياة ، وبالتالي يبحث عن أسئلة جوهرية تثير الرغبة في المعرفة والاكتشاف ومن داخل المقدس القرآني ، بعد كل ذلك الذي طرح عن الذات والصفات والقضاء والقدر والإمامة.

انه يستنبط الأسئلة من داخل البيئة المجتمعية ، ويتابع الموقف العقائدي من حكم مرتكب الكبائر ، والعدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين ، والوعد والوعيد ، واختيار المكلف وسواها.

يقترح القرن الهجري الأول بداية لتشكل علم الكلام لتنضج مباحثه في القرن الرابع ، وتتنوع مواقفه السياسية ، وتتباين عقائده ، فيما بعد يتابع الباحث تسمية علم الكلام عند الجويني في كتابه (الشامل من أصول الدين) والذي ظهر باسم الفقه الأكبر عند أبي حنيفة ، لان النظر في أحكام الدين وعقائده يسمى فقها ، اما العمليات فسمي بالفقه الأصغر. او اطلقت عليه تسمية علم التوحيد ، وهي تسمية الشيء باشرف أجزائه ، كما جاء لدى محمد عبدة في كتابه (رسالة التوحيد) ، وكذلك الماتريدي في كتابه (علم التوحيد) وبحثه في علم الذات وهل الصفات زائدة على الذات ام هي عينها؟

واتفق بعضهم على ان الصحابة والتابعين سكتوا عن المسائل الاعتقادية ، لايخوضون فيها.

الكلام صنف في إطار نظري لفظي لا يتعلق به فعل ، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية لذا اكتسب هذا العلم — كما يرى الشيخ علي عبد الرزاق — طابعا تجريديا ، منفصلا عن الواقع الحياتي للمسلم. وفي قصة ابن ابي العوجاء الذي تردد في مناظرة الصادق (ع) فقال له الإمام لماذا لاتتكلم؟

فأجاب بقوله : اني شاهدت العلماء ، وناظرت (المتكلمين) فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك.

 ومنهم من يجد صلة بعلم الكلام تربطه بفلسفة اليونان ايام المأمون ، او يحرم الخوض فيه باعتباره ضربا من الزندقة!

ينقل عن الإمام مالك حظره للسؤال في بعض المسائل لانه بدعة.

وقوله : من طلب الدين بالكلام ، فقد تزندق.

ونظر الإمام الشافعي اليه وكأنه بلوى تعادل كل مانهى الله عنه سوى الشرك.

وقال الإمام ابن حنبل : لا يفلح صاحب كلام ابدا.

في القرن الثالث الهجري ، تأسست مدارس كلامية عند المعتزلة ، والشيعة ، والشاعرة.

بعد ان خاض الناس في السياسة واشتعلت الأفكار والفتن في قصور السلاطين ، والمساجد ، ليقضي على الاعتزال. وظهرت مدونات كلامية حتى القرن السابع الهجري مثل المغني للهمذاني والتجريد للطوسي.

ومما يثبته الأستاذ الباحث هو عجز علم الكلام التقليدي عن الوفاء بمتطلبات عقيدة المسلم اليوم ، منها استعمالهم الحقائق (البرهانية) في القضايا (الاعتبارية) وما هي الا قياسات شعرية ، لاتهتم بالواقع ، قدر اهتمامها بانسجام مكوناتها المفهومية الذهنية المجردة ، او الافتراضية في حين كان القرآن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الاعلون.

وسبب هذا الانفصام بين العلم الكلامي ، والواقع العملي ، هو إفراغه من مضمونه الاجتماعي ، لتغدو العقيدة أشبه بتصديقات ذهنية غايتها في ذاتها ، لافي سلوكها الاجتماعي الواقعي.

وكأنها تناست واقعها الحضاري ، الذي ازدهر فيه التشريع والأدب والفن والعمارة.

وبخلاف هذا النمط الكلامي ، لايعتقد الفيلسوف بحقائق جامدة ، ومسلمات قبلية خارج إطار البحث والبرهان ، بينما يؤمن المتكلم بمسلمات قبلية ، بقياس جدلي يدور في نقطة ثابتة بلا دليل ، وكأنه رياضة ذهنية — كما يؤكد الكاتب — تفترض ثبات المدلول اولا ، ثم تبحث عن الدليل! !

وهنا تسقط حجة العقل ، ولم تقدم له قدرة على الفعل والحركة ، وهذا ما يتعارض — ايضا — مع ما حققته الاكتشافات العلمية الحديثة فيما يخص قوانين الطبيعة والفرضيات الحقيقية المغايرة للأوهام والتخريفات ومما يشكل أصالة نوعية — للكاتب هو تغطية للفترة الواقعة بين غزو نابليون لمصر (1798 ) وصولا الى علي شريغتي وهنا يظهر رفاعة الطهطاوي وكتابه (تلخيص الايديز في تلخيص باريز) وهذه من البواكير الأولى للاتصال بالغرب وأوربا.

يحرص — الرفاعي — على عدم الاكتفاء بدمج المسائل الجديدة واستيعابها في المنظومة المتوارثة ، عند البحث عن تطوير او تجديد علم الكلام.

لان التجديد يشمل القضايا او الأسئلة والهدف والمنهج والموضوع واللغة والبنية المعرفية ، ومنها — الانتقال — من (الدفاع عن المعتقد) الى (تحليل التجربة الدينية) بمنهجيات متعددة مثل : الهرمينوطيقا ، والسيمياء ، والظاهراتية ، والتاريخية ، والتجريبية ، والبرهانية ، وتوسيع وجهات النظر الى حقول مختلفة مثل : الواقع ، والأخلاق ومنظومة القيم.

لاختراق مستغلقات اللغة القديمة ، ومباني المنطق الصوري الارسطي ، بلغة جيدة تستند الى علوم العصر ومعارفه.

يجد الباحث الرفاعي هذه ألجدة عند المفكر الهندي (شبلي النعماني) ، الذي نقل آثاره الى الفارسية (محمد تقي كيلاني).

وبات اليوم أمرا طبيعيا ، ان يقترن علم الكلام الحديث بعلوم أخرى مجاورة مثل : الأخلاق والتاريخ وعلم الاجتماع ، وحقوق الإنسان ، وعلاقتها بالمنظومة الفكرية الدينية. وإعادة إنتاج أفكارها ، حسب الطباطبائي.

ويدحض — المطهري — الشبهات في تحديد لوظيفة علم الكلام ، ويبين الأدلة على أصول الدين وفروعه ، الباحث يلفت أنظارنا الى شبهات مستجدة في عصرنا ، ويطالب بتحديث المسائل والمباني الفقهية ، وتميزها من الخرافات ، كما سبق للأفغاني ، ومحمد عبدة ، والكواكبي ، ان فعلوا من قبل . او التأسيس لأرضية فلسفية كما نجد لدى محمد إقبال ومالك بن بني ، وباقر الصدر ، وسواهم.

وانتقل علم الكلام من طور الأحياء الى طور التجديد وتكييفه لمتطلبات الحياة المتغيرة

يدعونا — الباحث — الى اعتماد منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات في نمو المعرفة وتفسيرها ، والارتحال الى مواطن لم يفكر فيها من قبل ذلك لان تطور الفكر الإنساني يقترن دائما بالأسئلة الحائرة.

ولا تقتحمهم الحقول المعرفية البديلة الا بمناهج وأدوات ومقولات ومرجعيات معرفية جديدة.

يدعونا — الباحث — الى تفكيك نسيج الفقه ، بفلسفة قادرة على ان تكشف لنا كيفية صياغته ، ومعرفة معارفه ، وأدواته الخفية الثاوية في بنيته الداخلية ، لنشخص أصوله وفروعه ونحدد مركزه وتوابعه.

هذه الحفريات المعرفية في القراءة الجديدة للفقه توصلنا لاستنباط غير المرئي من الأنساق الداخلية لجترح أسئلة غير مألوفة ، وغير متداولة.

فالفقيه في خطابه يتناص مع المحدث والفيلسوف والمفكر العارف ، لانه ليس بمعزل عن التحولات الهائلة في العلوم الألسنية ، والقانونية ، والنفسية ، والتربوية ، والاجتماعية ، والانتروبولوجية.

يدعونا — الباحث — ايضا الى التحرر من النزعة الانصحابية التي سادت خطابنا التقليدي ، ويحذرنا من التمسك الحرفي بنصوص مضى ادائها ، وماتت حذلقتها الكلامية ، وينبغي تحرير الإيمان وتطهيره من التشوهات التاريخية. وتمييز الدين من معرفة البشر للفكر الديني.

والإعادة الاعتبار الى الرحمة والرأفة الإلهية والعفو والجمال والجلال ، الذي يتجلى مشرقا في النص القرآني. وان الدين هو الحب ، والحب هو الدين ، حسب تعبير الأمام محمد بن علي الباقر (ع).

ان فوبيا التحريم المطلق ، هي الوسيلة الخطرة لتعطيل فعالية العقل وانقطاع المعرفة!

 

يتوقف في ختام مباحثه عند علي شريعتي ، ويؤكد في سياق كتاباته على اشتراك التجارب الروحية في قوائم عامة ، لكنها لا تتطابق ، ومنها ان الدين يخلع معنى على مالا معنى له ، ويؤكد على ان آثار علي شريعتي تحكي لنا عن ذائقة فنان ، وعقلية ناقد متنور ، ونزعة مناضل متمرد ، لذلك ظل موقفه ملتبسا حين أراد توظيف الأيدلوجية في الثقافة ، وجعلها تقنية فائقة تفرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة لتصطنع ماليس فيها ، وهذا يبرر مسعاه لتحويل الإسلام من ثقافة الى أيدلوجيا.

وهنا ، يحذرنا — المؤلف — من أحادية علي شريعتي بوصف الأيدلوجية ، نمطا فهريا للفكر وحريته.

شريعتي كان يفضل الأسطورة على التاريخ ، لأنها حكاية سردية كبرى ، وجدت في فكر الإنسان وتقص تاريخا ينبغي ان يكون ، أما التاريخ فانه مجرد حقائق أوجدها الإنسان.

شريعتي يجر خلفه أفكار هيجل وماركس وسارتر وماركسي وتضج مدونته بالصراع الطبقي والبناء الفوقي والتحتي ، والاغتراب وسجن الذات (الهيدرجري) ، والطبيعة ، والمجتمع والتاريخ ، وظواهرهم هوسرل ، وتمرد كامو بمثل هذه الأدوات التحليلية وسواها خاض المؤلف الرفاعي موضوعه ليبين مثلما فعل عبد الرزاق بناء المعرفة يخضع لأثر الزمان والمكان الأرضيين — ايضا — وان الدولة تقع في إطار خبرة الإنسان ، ولا علاقة لها بالسماء.

كما يفعل بعض من طلاب السلطة ، الذين يبحثون عن مطبلين ، ووعاظ زائفين ، لايعرفون طريقا للرحمة ، بل يفتون بالقتل والتدمير ، وانتهاك شرائع الأرض والسماء وتخريب الحياة.

يضاف اسم الدكتور عبد الجبار الرفاعي في سؤاله اللاهوتي الجديد ، الى الأسماء الأكاديمية المرموقة في هذا المجال.

 

 

 

هوامش :

 

   ينظر في كتاب :

  مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد

  تأليف د. عبد الجبار الرفاعي

  مركز دراسات فلسفة الدين دار الهادي

  بيروت : 2005  

 

 

 

 

Comments are disabled.