الاطار المنهجي

الفعل الأرسطي … مصيره ومظاهره في المسرح الحديث

مشكلة البحث ..

تتسم عناصر البناء في الأجناس الأدبية المختلفة بخصوصيات يمنحها الجنس الأدبي لكل عنصر من تلك العناصر ، ولعل المسرحية بوصفها جنساً أدبيا فان بناءها هي الأخرى يتسم بعناصر تكتسب خصوصياتها وتفردها أحياناً من طبيعة الإطار الذي وضعت فيه ( الدراما ) .

وإذا كان ثمة رأي في المسرح يقول بان المسرحية هي ( الممثل ) ( الفاعل )
وبدونه ليست هناك مسرحية كعرض ، فان هذا صحيح في حدود ، إن الممثل هو الذي ينقل الأحداث وهو الذي يرتقي بالفعل المسرحي ولكن هل يمكن إن يكون هناك فاعل يكتسب فاعليته من دون إن يكون هنالك ( فعل )، فالفعل هو صيرورة الانفعال وكينونته المتجسدة. وهو روح الدراما التي صارت آخذةً بالتطور على جميع مستويات الفن المسرحي وعناصره منذ الإغريق وحتى آخر محاولات التجريب في المسرح الحديث ، فقد تداعت الكثير من المفاهيم وتخلخلت ، بينما ترعرعت مفاهيم ومستجدات في مظاهر الشكل والمضمون لصياغة عرض مسرحي جديد ، فما كان راسخاً وثابتاً في التراجيديا القديمة مثل ( الهامارثيا ) و ( التطهير ) وغيرها قد تداعت وصارت تأخذ شكلاً جديداً فان وقوع الفعل المسرحي في ( الزماكانية ) المحددة، وفي البناء المنطقي الذي كان عليه قد تغير بتغير التجربة المسرحية وبتطور مظاهرها ، فكان مصير الفعل المسرحي هو ذات المصير الذي آلت إليه التراجيديا القديمة ولأجل تسليط الضوء على ذلك المتغير فقد عني هذا البحث بالاجابة على تسائلٍ مفاده:- ما هو مصير ومظاهر الفعل المسرحي الأرسطي في خضم هذه المتغيرات الجديدة .

أهمية البحث :

إن أهمية البحث متأتية من أهمية مادته ( الفعل في المسرح ) حيث إن الفعل كان محوراً لجميع متغيرات الشكل والمضمون في الأدب والعرض المسرحي ، وعليه فانه يفيد لطلبة الأدب والنقد وجميع المعنيين بالمسرح وتطوراته.

هدف البحث :

انه يسلط الضوء على مفهوم الفعل المسرحي الأرسطي أولاً ثم ما شاب
هذا المفهوم من تحولات في التداول المسرحي بحد الاتجاهات
المسرحية الحديثة .  

حدود البحث :

يتحدد البحث بموضوعة ( الفعل في المسرح ) عند أرسطو ، ثم ما تبعه من اتجاهات معاصرة كان لها فعلها في التصدي للثابت الأرسطي عبر الاتجاهات والتيارات .

المبحث الاول

مفهوم الفعل وبنيته الدرامية

إذا كان الجمال في الفن هو كسر المدرك والبحث عن صيغ مماثلة برؤية إبداعية ، وإذا كان الفن هو عملية ابتكار على ماهو كائن ، فان الدراما أجدر الفنون التي يمكن بواسطتها خلق الأوضاع الإنسانية بل قد تكون أقوى أشكال الفنون تعبيراً عن العلاقات الإنسانية ، ذاك لان بنية الدراما من شانها أن تترك للمشاهد حرية التأويل فيما ورائيات النص الذي يشاهده وما يحدث أمامه على مستويات لا حصر لها عما تتسم به الدراما من احتواء لمقومات العالم الواقعي وكل ما يمكن إن تواجه من المواقف الحقيقية في الحياة من أوضاع وعلاقات .

لذا فالدراما قوامها الحياة والحياة قوامها الفعل ، والفعل حياتياً كان أم درامياً فهو مشروع للتأويل ، والتحليل والاكتشاف بوصفه  اللبنة الفاعلة في تشكيل الواقع بوجهة العام والدراما بوجه خاص . فـ (( الفعل أكثر عناصر الدراما غموضاً  ))(1) … تتفق معظم الدراسات على اعتباره روح الدراما ، إلا إن هذه الآراء تختلف في النظر إلى معنى الفعل ، فقد ظهرت مجموعة من التعاريف ( للفعل ) اختلفت في إيجاد تعريف عام وشامل ، ويرضي رغبة الدارس بموضوعه ( الدراما ) .. ولو تتبعنا سبب هذا الاختلاف لوجدنا ، إن أساسه متأتي من تعريف أرسطو للدراما ، حيث
يقول إنها (( محاكاة لفعل نبيل تام لها طول معلوم بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقاً لاختلاف الإجراء ))(2) ، فأرسطو في تعريفه هذا لم يشرح هنا معنى الفعل بشكلٍ واضح ونهائي ، لذا فإننا وقبل أن نستطرد في تقديم التعاريف ينبغي أن نوضح بان هناك ثلاثة مظاهر من الأفعال (( فعل محسوس : وهو الفعل الذي يعتمد على التجربة وتنمية الحس الإيقاعي لدى المشتغل في المسرح ، الفعل المرئي أو مايسمى فعل السلوك : وترتيب فعل السلوك يعتمد على تقنيات ميكانيكية هندسية والثالث وهو المهم ، الفعل الانطباعي : وهو الذي يرتكز في الحد التكويني الكامل للمسرحية ))(3) . ولما كان الفعل روح الدراما كما ورد من قبل فان أهمية موضوع هذا البحث تأتي من خلال محاولة تلمس الفروق الدقيقة بين هذه المظاهر
الثلاثة للفعل ، كما انه عملية دراسة مصيره بوصفه مؤسساً أرسطياً قد
تمظهر في مابعد بمظاهر متعددة في المسرح الحديث قد تسهم بشكل أو بآخر في توضيح معنى الفعل أولاً .

وعملية بناء هذا الفعل ثانياً أو المظاهر التي ظهر فيها . لأننا (( عندما نتحدث عن الفعل في الدراما لا نعني به الفعل الفيزيائي بمعناه ، لان هذا لا يشمل سوى جزء من العملية ، لأنه لا يجوز أن يقيم من الفعل ، العمل الجسمي والحركات الجسمية فقط ، وأن الدراما يمكنها أن تحتوي على فعل عظيم يسيطر على الجمهور من البداية حتى النهاية دون أن يكون هناك إلا القليل من العنف الجسمي ، لان الفعل العاطفي والفكري هما الحاسمان ))(1) . وان أهمية الفعل في المسرح سواء كان مقروءاً أو معروضاً تأتي من خلال قابليته على خلق عنصر الترقب والشد مما يساعد على الإمساك بالمشاهد و ((اجتذاب انتباهه والسيطرة على هذا الانتباه طيلة الوقت المنشود ))(2) . ومن خلال هذه الحقيقة المهمة تأتي أهمية المحاولات المتعددة للمؤرخين في تجسيد العرض المسرحي أو عملية بناء الفعل المكتوب وتحويله إلى فعل مرئي مادي يجسد بوسائل المسرح المهمة ، الممثل ، الديكور ، الأزياء ، وغيرها ، ومن ثم قدرتها على إيصال الفعل المسرحي بالشكل الذي يجذب المشاهد ويشده إلى العمل المسرحي مما حدى بالفعل أن يتمظهر ( بتوريط المتلقي ) وبناء فعل العلاقة بينه وبين العرض … إن أولى المحاولات الجادة في توضيح الفعل وشرحه والتأكيد عليه جاءت من خلال الدراسة المهمة التي قدمها أرسطو من خلال كتاب ( فن الشعر) والتي اعتمد فيها على دراسة النصوص المقدمة آنذاك وطريقة بناء الفعل فيها وسنأتي على هذا الموضوع في مجال الحديث عن بناء الفعل عند أرسطو ، وبعد إن نمر وبشكل سريع على أهم وجهات النظر في تعريف الفعل .

فالفعل من وجهة نظر ( حسين رامز محمد رضا ) . (( نشاط يجمع بين الحركة الجسمانية والحدث ويتضمن التطلع والإعداد والتحقيق لتغير في التوازن ، وهذا التغير هو جزء من مجموعة من المتغيرات والحركة اتجاه، تغيير في التوازن وقد تكون تدريجية ، لكن عملية التغيير يجب أن تتم ، … وقد يكون الفعل مركباً وقد يكون بسيطاً غير إن أجزاءه جميعاً يجب أن تكون منظورة ومتطورة وذات معنى ))(3) ، وإذا ما قارنا وجهة النظر هذه بالمفهوم السابق الذي أخذناه عن ( كريفتش ) نجد أن ( رامز) يربط مابين الصراع والفعل يرى إن اختلاف التوازن بين القوى المتصارعة والتي تشكل الأساس المنطقي للدراما سيوصلنا بالنتيجة إلى تلمس الفعل وأسلوب بناءه . هذا إضافة إلى تعريف آخر نجده للدكتور إبراهيم حمادة في معجم المصطلحات الدرامية حيث يرى فيه ضرورة التفريق مابين الفعل الدرامي ( Dramatic ،  Action ) ، والفعل المسرحي ( Stage ، Action ) فالفعل الدرامي كما يراه (( هو ترك أو تطور الحادثة داخل الحبكة أو التكوين العام للمسرحية ))(4) ، ويؤكد إن تطور أو تحرك الحادثة يتم من قبل الممثل على خشبة المسرح سواءاً بحركته الجسمية أو بواسطة الحوار . إلا انه يطلق على الحركة أو النشاط الجسماني للممثل مصطلح للفعل المسرحي حيث يرى هذا النشاط . ربما يكون (( عبارة عن وثبة أو همسة هادئة ، أو إلقاء حواري ))(5) . إلا إننا نجد أن هذا التفريق مابين الفعل الدرامي والفعل المسرحي فيه الكثير من الاجتهاد لان المسرحية كما نعرف تعتمد بشكل أو بآخر على الممثل ، وهذا ما يميزها عن الأعمال الأدبية الأخرى ، هذا إضافة إلى إن حركة الممثل ونشاطه الجسماني لا تأتي إلا من خلال فهمه لفعل المسرحية الأساسي ( الدرامي ) الذي نجده في النص .

كما يرى ( كريفتش ) (( إن الفعل في مسرحية جيدة يمكن إن يحسه ويفهمه كاتبه حتى قبل أن يبدأ بالتفكير في تفاصيل الحبكة أو في الشخصيات والحوار . فقد تكون لديه فكرة عامة غامضة تطالبه ، بإلحاح ، بإبداء ما يريد في مسرحيته ، وحينذاك ينمو الفعل الدرامي ، وقد يخطط الكاتب حتى قبل كتابة كلمة واحدة من المسرحية ، للفعل الصاعد أي المتجه نحو الذروة ، والفعل النازل والحل النهائي ، وفي الحقيقة إن عملية الكتابة تعد جزءاً ثانونياً من العمل بالنسبة إلى الكثير من المسرحين ))(1) .

وفضلاً عن كل ما تقدم نرى إن هناك مجموعة من المظاهر الفنية لبناء المسرحية التقليدية إلا إن أهم هذه المظاهر ، هي فيما قدمه ( جرستاف فيرتاج )
( 1816 – 1895 )(2) . الذي وضع طريقة لدراسة عملية البناء الدرامي سميت فيما بعد باسمه ، حيث وضع نموذجاً لبنية مسرحية بخمسة فصول وقد قسم المسرحية استناداً لهذا إلى (( التقديمة ، ولحظة الدفع ، والحدث الصاعد ، وذروة التأزم ، والحدث المنهبط ، والفجيعة ))(3) . إن هذا التقسيم سمي فيما بعد بـ( مثلث فيرتاج )
ومنهم من سماه بـ( هرم فيرتاج ) . وقد (( اختلف على النقاد أمر التمييز بين المصطلحين : نقطة التحول والذرة ، فاللحظة الحاسمة أو نقطة التي يتحول عندها الحدث المتصاعد إلى حدث متهاوي وهي في نظر الكثيرين الذروة، و غير إن نقطة التحول ليست أعلى ما تبلغه المسرحية من إثارة ومتعة وإلا لتضائل الاهتمام في مسرحيات شكسبير مثلاً ، منذ منتصفها ، وهذا غير وارد أبداً ))(4) .

ولعل ( فيرتاج ) يصف البناء الدرامي للفعل على انه (( تدفق لقوة الإرادة … تحقيق عمل ورد فعل ذلك على النفس … حركة وحركة مضادة … كفاح وكفاح مضاد … ارتفاع وانخفاض … ربط وفك ))(5) .

ويتفق الدكتور عبد المرسل الزيدي في مفهومه السابق رغم وجود بعض الاختلافات إلا أنهما من حيث المبدأ متشابهان ويهدفان لنفس الهدف والزيدي يرى إن هناك نقطة مهمة تنطلق عندها الأحداث لذا فقد سماها ( نقطة انطلاق الحدث ) بحيث يصبح البناء الدرامي من وجهة نظره كما يلي :

المقدمة المنطقية ، تحديد الشخصيات ، نقطة انطلاق الحدث ، الأزمة ، الذروة ، التطهير . والمقدمة مهمة لان فيها يتم (( تهيئة الجو العام وتوضيح الموضوع الذي تدور حوله المسرحية وأقطاب الصراع فيها ))(1) . أما تحديد الشخصيات ففيها نتعرف على الشخصيات السلبية والايجابية وعلاقاتها ودوافعها ، أما نقطة انطلاق الحدث فهي ما اتفق على تسميتها من قبل النقاد باسم ( التحول ) ، أي تحول الأحداث إلى مجرى آخر حيث تقرر فيها بعض الشخصيات قرارات تؤدي إلى تغيير في حياتها ومواقفها وتصرفاتها ، وهي تأتي نتيجة لتصاعد الحدث الدرامي وانتهائه بالأزمة التي هي اخطر موقف في المسرحية لأنها النتيجة النهائية لتصاعد الحدث ، وما هي إلا (( اشد الاصطدامات بين القوتين المسيطرة والمدافعة ))(2) . لكن هذا لا يعني إن نقطة الانطلاق الحدثي قد حسمت عندها الأمور ، وإنما هي توحي لنا بان هناك شيئاً ما من المواقف والأفعال سيئول إلى التحول . إلا إن هذا الاحتمال أيضاً يحمل إلى جانبه احتمال مضاد وهو ما اسماه الدكتور الزيدي بـ (الازمة) فهي أي الأزمة تسبق عملية الحسم النهائية وهي توحي لنا أيضاً بان المواقف والأفعال التي توقعنا لها الانهيار أو التحول ، ربما ستنهض وتنتصر وتحسم الموقف لصالحها . إما الذروة فإنها قمة التصارع في الفعل واللحظة الحاسمة التي يتعلق بها مصير المواقف والأفعال ، وإما التطهير فانه النتيجة النهائية لكل الأحداث التي سبق الحديث عنها ، وهو بنفس المفهوم الذي جاء به ( أرسطو ) أي إثارة عنصري الخوف والشفقة على البطل . وبذلك تكون المسرحية قد حققت هدفها رغم اختلاف الآراء في تحديد مفهوم ( التطهير )  الذي اتخذ المسرح الحديث فيما بعد منه مظهراً يقابله فعل العلاقة مع المتلقي ، ويؤكد ( الزيدي ) إن معظم المسرحيات التقليدية لا تخرج في تقنيتها عن هذا التقسيم الذي ذكره ، إلا إن هناك بعض الاختلافات في التفاصيل التقنية البسيطة التي لا يمكن اعتبارها خروجاً جوهرياً كبيراً على عملية البناء التقليدية وإنما هي من صميم عملية الإبداع والتطور ، إلا إن هذا التعميم لا يمكن إن يبقى ثابتاً كقانون جامد وإنما هناك تطور وخروج ، فمثلاً شكسبير لم يتقيد تقيداً تاماً بالقوانين الفنية التي كانت ساندة في عصره … هذا بالنسبة لعملية الكتابة الدرامية ، أما بالنسبة لعملية التجديد فان الأمر نسبي أيضاً وهذا يشمل النقد الفني كذلك ، وتأتي نسبية هذه العملية من خلال زاوية النظر إلى النص المسرحي من قبل المخرج أولاً وبالتالي النظر إلى المشاهد ، ذلك لان القضية الفنية ما هي الا فعل فني لشد المشاهد وجذبه وتركيز بصره في ما يقدم ، وحتى هذه النقطة التي نجدها في جميع الاتجاهات إلا إنها تختلف من حيث أسلوبها من مخرج أو ناقد إلى آخر ، فأرسطو والواقعية النفسية يختلفان حتماً في طريقة تعاملهما مع المشاهد  عن التعبيرية والملحمية ومسرح القسوة ، وهذا الاختلاف متأتي من خلال اختلاف تقنية كل منهم وهذا ما سيجري بحثه فيما يلي ، وخلاصة القول إن عملية بناء الفعل في العرض المسرحي ، لا تعني بالضرورة التقيد التام بشكل البنية المسرحية للنص الأدبي وإنما هي تخضع إلى العلاقة ما بين المخرج متمثلاً بالعرض المسرحي والمشاهد، فالعرض كيان متصل ومتماسك سيجعل من  المشاهد منهمكاً في خضم الفعل المسرحي انهماكاً تاماً سواء كان هذا العمل واقعياً أم غير واقعي .

إن بعض العروض التي تطمح إلى جر المشاهد إلى الأجواء التي تقدمها والتي تستخدم وسائل متعددة لذلك تجرد الإنسان أحياناً من القدرة على التميز والتدقيق . ففي مسرحية ( كلكامش ) التي قدمها المخرج ( سامي عبد الحميد ) فمثلاً تجد رغم إنها تطرح عالماً خيالياً ، إلا إنها تجرد الإنسان من هذه الاندماج مثل استخدام الجوقة والراوي فضلاً عن إن بناءها ليس بناءاً تقليدياً وفعلها غير متصل وهذه الحالة لم تتم إلا بتأثر الأسلوب التمثيلي أولاً والتأثير بالإضاءة والمؤثرات ثانياً ، فبناء الفعل في المسرحية يخضع إلى مظهر العلاقة بين العرض والمشاهد ، وهي أما أن تكون ايهامية  ، رغم أن قصتها غير واقعية وأما أن تكون لا ايهامية رغم إن قصتها واقعية وهذا يتبع الموقف الفكري للمخرج والمؤلف من قبله أيضاً .

بنية الفعل الأرسطي

إن الحديث عن بناء الفعل عند ( أرسطو ) يعني الحديث عن التراجيديا الإغريقية التي استند إليها في تنظيره للمسرح ومن هنا تأتي أهميته باعتبار إن آراءه جاءت من خلال دراسته وتحميص .

يقسم أرسطو المسرحية من حيث بنيتها الفنية إلى المقدمة التي هي عبارة قسم تام يسبق دخول الجوقة وهو يقوم به الشاعر على لسان احد ممثليه للدخول في الحدث . أما المدخل الذي هو القسم من نشيدين تامين من الجوقة ، وهو تمهيد يقوم به الشاعر على لسان احد ممثليه للدخول في الحدث . أما المدخل الذي هو القسم الآخر من أقسام المأساة عند أرسطو فيعرفه على انه قسم تام من نشيدين تامين من الجوقة ، كما انه يؤكد على (( إن كل تراجيديا جزئيين هما ( العقدة ) وهي كل ما كان من مدخل إلى حيث يبدأ تغير الخط في حياة البطل ثم ( الحل ) وهو كل ما كان من بداية هذا التغير حتى الخاتمة )) (1) ، إن بنية الدراما كما يرى أرسطو تتكون من
( بداية ووسط ونهاية ) والبداية تحتوي على المدخل كما ذكرنا ، أما الوسط فانه يحتوي على ( العقدة ) أما النهاية فإنها تتمثل فيما يسمى بالحل ، كما انه يتحدث لنا عن عملية الانقلاب والتحول إلى الضد وهذا ما يتم في الوسط ، وكذلك فانه يتحدث عن الانكشاف أي الانتقال من الجهل إلى المعرفة وهذا ما نراه واضحاً في مسرحية
( أوديب ) لسوفوكليس ، فأوديب يتصارع مع المجهول ، أي بعد انتقاله من الجهل إلى العلم ، ونتيجة لهذا يحدث الانقلاب فهو يبحث عن القاتل فإذا به هو القاتل (( لقد أصبح الراغب في الانتقام مجرماً ، انعكس الموقف ، أو بالمعنى الأرسطي انقلب إلى عكس المتوقع . إن هدف التراجيد ، كما يرى أرسطو هو تحقيق التطهير وهذا لا يتم إلا بالانكشاف والانقلاب ))(2) .

المبحث الثاني

مظاهر بناء الفعل في الواقعية النفسية

إذا كان ( أرسطو ) هو أول من نظر لبنية المسرحية مشدداً على فعلها المسرحي ، فان هذا النهج الذي اختطه كان لا بد له من الاستمرار في السريان عبر النموذج الأدبي والفني المعاصر خصوصاً في المناهج المتقدمة تاريخياً مثل الطبيعية والواقعية التي على الرغم من احترامها لصرامة ذلك السياق وتشدده في الأدب إلا إنها في المسرح قد اتخذت مظهراً نفسياً في بناء أفعالها عندما اقترنت العملية بأداء الممثل ، حيث وضع ( ستانسلافسكي ) الفعل في طليعة اهتماماته عندما اعتبر الممثل هو الفاعل المجسد لروح العرض وهو من هنا يرى بان الفعل الداخلي للمثل يؤدي إلى فعل سلوكي خارجي في الاندماج والتقمص ، فكانت نظريته تتركز في إن الفكرة الحاكمة والفعل المتغلغل هما قانوني بناء العرض المسرحي وجهد الممثل .

ولما كان كذلك فهو من المؤمنين بفكرة الإيهام بالمسرح ، حيث عمد  إلى إيجاد مجموعة من الصيغ المسرحية شملت المنظر والملابس والماكياج والأثاث وأصر على تطوير مفهوم الواقعية الفنية والواقعية النفسية على اعتبار بان الفعل يتغلغل في كل جزيئات العرض ، وكانت الخطوط الأساسية لمنهجه في العمل تعتمد البحث والتجريب والتدريب ، لكي لا يقع في الفوضى والارتجال ، إن دعوته إلى الواقعية قد جاءت من خلال ربط الحياة الحقيقية للمجتمع الإنساني بالمسرح متجاوزاً حدود النقل الخارجي للطبيعية التي اتسم بها مسرح  ( اندريه أنطوان ) من قبله .

ويأتي هذا الوعي التنظيري بالفعل المسرحي لـ( ستانسلافسكي ) من فهم لمتطلبات المسرح الواقعي وما يميز الفعل فيه من حيث التغير في قوانين الصراع كما كان عليه الفعل في إطار النظرية ( الميتافيزيقية ) القدرية ، إذ دعت الواقعية إلى إحلال النظرة الموضوعية العادلة ، مما دعى إلى التركيز على تقدم أداء الممثل وظهور مفهوم التقمص والاندماج وأهمية التدريب والفعل الداخلي ، لذا فان مدرسة (ستانسلافسكي ) تتمسك بقاعدة مهمة تحاول تحديد نوع العلاقة بين المخرج والمؤلف لتضمن إن على المخرج أن يعبر عن مضمون المسرحية وان يكون مترجماً أميناً لأفكارها ، على المخرج أن يخدم نقطة البداية في الخلق وهي إيصال فكرة المسرحية للمشاهد ، فالطريقة الستانسلافية وجدت إن (( اكبر عمل وأعظم مهمة له هي نقل فكرة المسرحية وهدفها إلى النظارة )) (1).

هذا أضافه إلى إن ستانسلافسكي يرى إن العرض المسرحي كل لا يتجزأ وهذا ما أكده باسم ( الوحدة الفنية ) . وهذا متأتي من خلال زاوية النظر للمجتمع فستانسلافسكي يرى إن العرض المسرحي يصور حقيقة الحياة فيجب أن يتوخى الموضوعية المسرحية ، وان يأخذ بنظر الاعتبار شكل الوحدة الفنية لهذا العرض ، ((ولا شك إن السعي المحكم وراء الهدف ووراء التسلسل ووراء منطقية تطور الأحداث هو الذي يكشف عن وجه الحياة الحقيقي في مسرحية ما ، كما يكشف عن حياة الشخصيات التي تعيش فيها ))(2) .

وكما إن ستانسلافسكي يناضل من اجل الربط بين المسرح والحياة الواقعية أو بالأحرى في محاولة طرح الأحداث بشكل منطقي متسلسل ، فقد أصبحت مهمة المخرج صعبة نوعاً ما لأنه مطالب بتنسيق الأجزاء وتوصيلها في نغم متناسق وان يبين تطور هذه الأحداث .

إن البحث عن الهدف العام للمسرحية يمتلك من الأهمية الكثير بحيث أصبح المرتكز الأول الذي يعمل المخرج للبحث عنه ، وكما إن الخط الأساسي في العرض يكون في خدمة الهدف (( وعلى هذا نجد إن نقطة البداية عنده تحدد شكل العرض المسرحي وموضوعيته ، فلا يمكن أبداً أن يقدر نجاح لعرض مسرحي لا تتوفر
فيه أهداف
النص ))(1)
. وهذه المهمة تقع على عاتق الفاعلين في المسرحية جميعهم .

إن الفعل عند ستانسلافسكي لم يختلف عن أرسطو إلا في وسيلة طبيعية ….. فهو أيضاً يعتمد البناء التقليدي الذي ذكرناه من قبل ، وهو أيضاً يتكون من البداية ووسط ونهاية ، وهو متناسق ومتسلسل ومترابط ، وكل جزء منه يسبب الآخر ويكون نتيجة له ، وهو يمتلك كل الوسائل الأخرى التي تساعد على شد المشاهد وجذبه ، إلا إن طريقة بناء الفعل لديه في المسرحية المقدمة على المسرح تختلف قيلاً ، صحيح انه يلتزم بما جاء بالنص .. إلا إن طريقته اعتمدت ليس على تجسيد هذا الفعل فقط بشكل مادي مجرد وإنما اوجد نظاماً خاصاً بالاعتماد على الممثل لجعل الفعل المقدم ينبض بالحياة ، فالفعل عنده ليس جسمانياً بارداً (( وإنما طالب ممثليه بالبحث لا نفسهم عن دوافع داخلية تنتج كما يرى أفعالاً جسمانية )) (2) . وهذا يبدو واضحاً في تكنيك ستانسلافسكي السايكولوجي ، إن مجموع أفعال الشخصيات المتصارعة تشكل الفعل العام للمسرحية، ولأهمية فعل الشخصية فقد أعطى أهمية كبيرة لها فانه طالب بتقسيم الدور إلى أجزاء تتوالد الواحدة من رحم الأخرى ، ونصح ستانسلافسكي الممثل إن يبتدع أسماء تتلائم مع كل جزء في صورة أفعال لان الفعل يتضمن الحدث وأفضل فعل لهذا الهدف هو (( أريد أن )) (3) . أي يسأل الممثل نفسه وكأنه الشخصية التي يمثلها … إن الفعل عند ستانسلافسكي ليس عوضياً وإنما هو فعل مقصود ينتج بإتقان ، وهنا فقد أصبح الفعل بشكله المعروف سابقاً غير مجدي دون ان تتظافر على إظهار عناصر أخرى ، ستانسلافسكي يرى إن (( للمؤلف على المسرح أن يتوافر على إظهار العمل ظاهرياً وباطنياً ، وبصورة منتجة مقصودة لا على نحو عام ، فالفعل المسرحي يجب أن يكون مبرراً باطنياً ، وان يكون منطقياً متماسكاً مقبولاً من الحياة الحقيقية )) (4) . وهذا لا يمكن التوصل إليه دون مطالبة الممثل باستخدام التقنية النفسية واستخدام ( لو ) لغرض رفد الفعل بالدافعين الظاهري والباطني ، وإضافة إلى عنصر ( الظروف المعطاة ) . ومن خلال هذه الوسائل يمكن تجسيد الفعل وبالتالي توصيل روح المسرحية….

خلاصة القول إن الفعل عند ستانسلافسكي فعلاً مسرحياً يستمد شكله من فعل

المسرحية الدرامية والذي يتميز بالبداية والوسط والنهاية ، وهو فعل متصل ومتوالد ومتفاعل ومتكون من مجموع أفعال الشخصيات في المسرحية ، والفعل عند ستانسلافسكي أكثر حياتية وصدق ذلك لاعتماده على التقنية السايكولوجية للممثل التي يمكن العمل فيها من خلال ( لو السحرية ) و ( الظروف المعطاة ) .

المبحث الثالث

مظاهر ما بعد الواقعية النفسية

مايرهولد وفاختنكوف

ربما يعد ( مايرهولد) أول مظهر من مظاهر الخلخلة في المسرحية الواقعية النفسية في إطار المصير الذي سيؤول إليه الفعل المسرحي ، من خلال ما دعى إليه في مسرحه الشرطي وعبر (( الأسلبة )) (1) . وموقفه من الشعر في المسرح الإغريقي الذي انبثقت عنه دراسة الفعل الأرسطي، وكان قد اشتمل الموقف المجدد والمجرب عند ( مايرهولد) على الموقف من الجمهور وضرورة مشاركته بالعرض المسرحي بعد إن كان مجرد مراقباً للفعل المسرحي بـ( البايوميكانيك ) وهو نوع من التدريب يهدف إلى تطوير الممثلين في رياضة تعتمد على الاستعداد لأداء الفعل ثم التوقف ثم الفعل نفسه ثم التوقف ثم ردود الأفعال الموازية ، وكانت غايته تنظيم الاستجابة الانفعالية والعضلية للممثل ، وبالتالي فانه كان يطلب من ممثليه بان يستبعدوا كل المشاعر الإنسانية ، وان يخلقوا نظاماً يقوم على قوانين ميكانيكية بحيث جعل ( مايرهولد ) جماعته تتحرك في كتلة واحدة متناغمة في فعل جماعي واحد وليس غايته نقل المشاعر الفردية لشخصياته ، بل إن ينقل خلاصة نفيه للانفعالات (2) .

أما ( فاختنكوف ) الذي كان هو الآخر من أعظم تلاميذ ( ستانسلافسكي ) وأقربهم إليه فقد كان بدأ دراسته على يد ( دانشينكو ) وكان يؤمن إيماناً كاملاً بتعاليمه لذا فقد أصبح مساعده في ( ستوديو الفن ) وعهد إليه بتدريب الشباب وهو على الرغم من انه لم يقدم سوى ثلاثة أعمال مسرحية مهمة إلا إن تعاليمه في المسرح كانت قد ركزت على ما يسمى ( بالواقعية الخيالية ) أو ( الواقعية السحرية ) حيث الفعل عند (فاختنكوف ) هو من خلال المزج بين الحقيقة السايكولوجية ودرجة كبيرة من الوعي .

الفعل التعبيري ومظاهرة في المسرح الملحمي

لما كانت التعبيرية هي خرق للمعايير التي أعلنتها قواعد الدراما الأرسطية وكل قواعد الشعرية الكلاسيكية وخصوصاً ماجاء من خرق على يد الرومانسية الألمانية التي لم يغيب عن تنظيرها ، الجمع بين المأساة التراجيدية والكوميديا ، مما أدى إلى ظهور جنس مسرحي جديد ، اكتسب فيه الفعل المسرحي شكلاً تركيبياً عبر ماسمي وقتذاك بـ( دراما المحطات ) التي يعرض فيها تتابع ( المواقف ) التدرج المنطقي للحدث بطريقة يسودها استعمال للبعد ( الكروتسكي ) الذي يتجلى من خلال تجرد الشخصية الدرامية عن هويتها وباطنيتها ، ثم الاستعانة بما يكمل تواصل الفعل الدرامي التعبيري، عبر استعمال إكسسوارات مثل الأقنعة والأزياء الغريبة والمؤثرات الضوئية والموسيقة الرمزية التعبيرية .

لقد أثرت التعبيرية الألمانية تأثيراً كبيراً على المسرح الأوربي ، فإذا
كان ( فيكتورهيجو ) في المسرح الفرنسي قد رفض الوحدات الثلاثة الأرسطية ، باستثناء وحدة الفعل ، فان الدراما التعبيرية كانت غايتها ردم القواعد الأرسطية ، ومنها على الخصوص وحدة الفعل ، وتعويضها بمجموعة من المشاهد ، لذا كان اكتشاف المسرح الملحمي ( البرشتي ) في مطلع الخمسينات ، والذي نهل من التعبيرية الألمانية واستفاد من الشكلانية ، بحثاً عن صيغة جديدة لبنية الفعل من أبعاد الدرامية تهدف إلى تغيير وضعية المتفرج ، وتصعيد إدراكه انطلاقا من إن بنية النص في مكونها هي فكرية وشكلية في الوقت نفسه ، وذلك من خلال ( التباعد ) الذي يستهدف مجموعة من الأنساق الدرامية ، لتناول ما هو مألوف بشكل غير مألوف ( التغريب ) لإبراز جانبه الخفي …. ولما كان ( برشت ) كاتباً ومخرجاً فانه استطاع أن يأتي بأسلوب جديد للمسرح في مجالي الكتابة ( الأدب ) والعرض الذي سمي فيما بعد ( بالأسلوب الملحمي) الذي كان يطمح إلى استبدال القوانين الأرسطية في كتابة المسرحية ، انه يطمح إلى سرد القصة وليس فبركتها ، ذلك لأنه لا يطمح إلى عرض الواقع كما كان وإنما إعادة عرض الواقع وفقاً للتكنيك الملحمي ، وبرشت يجد من المناسب
إن (( ( كتابة الدراما ) اليوم أو غداً
أصبحت تعني إعادة تنظيم المسرح وأسلوبه))(1) . وقد تمخضت عن إعادة التنظيم هذه ولادة الشكل الملحمي الذي يلجأ إلى السرد ولا يؤمن بإمكانية الاندماج بالنسبة للمشاهد ، ويستعرض برشت نظرية المسرح الملحمي مجموعة من الفروق بين العمل الدراماتيكي التقليدي وبين الأدب الملحمي ، واهم هذه الفروق هو إن العمل الملحمي يمكن أن يقطع إلى أجزاء دون أن يؤثر على مغزاه أو بناءه الفني ، وان هذا الفرق يمكن أن يقودنا إلى تفهم الفعل الملحمي وطريقة بناءه عند برشت فهو ليس بناءاً تقليدياً متنامي ، كما في الأفعال الأرسطية ، فأرسطو يطمح إلى إثارة ( التطهير ) من خلال التسلسل المنطقي المتنامي للإحداث في فعل متصل وصولاً إلى إثارة الشفقة والخوف ، فبناء الفعل البرشتي بناءاً أفقي يستمد مظهره من بنية التعبيرية فهو يتصاعد ويتوقف ليعود لبناء حدث وصعود جديد وهكذا ، ولما كان التطهير يتم بفضل الفعل النفسي أصلاً والذي رفضه برشت أذ هو يكون تقيضاً للمسرح الجديد ( الملحمي ) ، فانه ولهذه الأسباب وغيرها قد خرج عن نطاق البناء التقليدي للفعل الذي اتسم بوجود الذروة والتعقيد ، فالفعل عند برشت مجموعة ذروات يربط فيما بينها خط متصل هو خط التفكر وهدف برشت من هذا هو محاولة الابتعاد عن الاندماج والإيهام ، لذا فقد ابتدع في هذا الشأن أهم وسائله
( التغريب ) ويعني كما ذكرنا أن تفقد الحادثة أو الشخصية كل ما هو بديهي ومألوف ، أو تناول ما هو مألوف بطريقة غير مألوفة ، لذا فقد عمد إلى استخدام طريقة البناء المسرحي المفتوح ، فهو لا يقدم تسلسلاً للإحداث وإنما يروي هذا التسلسل ، (( كما إن كل مشهد من مشاهده يعد كياناً قائماً بذاته على العكس من المسرحية التقليدية حيث يكون المشهد جزء من كل يمهد للمشهد الذي يليه )) (1) . وقد تبع هذا المتغير متغيراً آخر يتعلق بالمشاهد والممثل على حدٍ سواء فهو قد طمح إلى إلغاء كل أنواع العاطفة حيث سحب هذا إلى منع استعمال الإضاءة الحسية الملونة لنفس الغرض ، وأما بالنسبة للممثل فانه أي برشت بإلغائه لتطوير الشخصية التي يمثلها وتنامي فعلها المنطقي في المسرحية التقليدية ، فقد وضع الممثل في موقف صعب فهو (( يلغي العاطفة المصطنعة ويلغي تطور الشخصية وتنامي المشاعر لدى الشخصية لأنه أدرك بان عدم إلغاءها سيؤدي حتماً إلى عدم وضوح المغزى الذي تريد أن تصل إليه )) (2).

وهو ما يؤشر نوع الاختلاف في بناء الفعل عند برشت .

الفعل في المسرح الحديث ( تيارات التجريب المعاصر )

اذا كان المسرح الملحمي، قد تمرد عند (برشت) على فلسفة المسرح السايكولوجي الذي ساد فيما بين الحربين فان ظهور (مسرح العبث) وغيره من التيارات فيما بعد هو نتاج لمسرح ما بعد الحرب، حيث كان ظهوره في فرنسا خروجا على النموذج الحديث للمسرحية الفرنسية التي ازدهرت على يد كتاب لهم نظرتهم الفلسفية في بناء الفعل الدرامي المسرحي من امثال جان جيرودو وكامو، وكوكتو وسارتر وغيرهم، ممن تميزت دراماتهم ببنية لغوية مميزة في ارتكازهم في بعض الاحيان على التراث الاغريقي كمصدر للتناص معه في نماذجهم، وكما هو معروف فان مسرح العبث لا يقوم على بنية تاريخية او تعليمية وانما عمد الى بناء الفعل من حكاية دائرية الفعل ولا يقودها حدث درامي منطقي وانما تخضع لبحث ولعب على الكلمات. لذا فان (مسرح العبث) هو الاخر قد عمد الى التصدي للقواعد الارسطية، بتاثير من التعبيرية فتعمد تهشيم الحدث و الاستعاضة عنه بمجموعة من المواقف الدائرية والحركات المتكررة، واشخاص لا هوية لهم ولا يتواصلون مع الواقع اليومي.

وعليه فقد ظل الاختلاف والتجريب في شعريات الحداثة المسرحية يفرز مظاهر تتغير بتغير التيارات التي تعاملت مع الفعل المسرحي ومصيره او ربما باسلوب انتهاكه، فاذا كانت شعرية المسرح عند (ارتو) هي العودة الى الاصول البدائية الاولى والى الطقوس الشعائرية والاحتفالية، فانه لم يدعو الى ترسيخ وتفعيل القوانين الارسطية، بل دعى الى تجديد افق الفعل المسرحي عبر تحطيم التواصل بين الواقع وعرضه من خلال تحقيق توحد بين الجمهور والممثل، وهو على العكس من (برشت)، فان شعرية (ارتو) كانت تسعى الى ان يسترجع المسرح بعده المقدس، وذلك بدفع العقل (عقل المتلقي) الى التماهي مع الكلمات من خلال الممثل وجسده الفاعل في الطقس المسرحي، فالفعل في مسرح القسوة عند (ارتو) هو الطقس، والانفعال عنده يجب ان يترجم الى لغة جسدية قوامها الاستعارات من الاساطير، وكل ما هو بدائي، فالفعل عنده ينطلق من وجهة نظر فلسفية… يرفض من خلالها منطق العقل ليضع الحس بديلا موضوعيا له على اعتبار ان العقل يكلبنا داخل ذهنية متحجرة وسادية، لذا فان الفعل يقوم على تحرير مكبوتات الجسد في عملية تطهير، هي غير التطهير التراجيدي، لان(ارتو) يعتمد التلقائية واللاعقلانية والهذيانات. وهو بهذا الطقس يطرح نمطين من الاستدلال تنحصر في قوانين (السحر الهرلوفراس) الذي يمثل فيه الجزء الكل، والسحر الاسود الذي يتطلب نوعا من التعزيمات السحرية لتفعيل اشتغاله بين الهذيان والطاعون، فالهذيان في اعتقاده يشكل الحرية الروحية التي تعمل على اذابة الاشكال الاجتماعية والطاعون بقدرته على التفشي والعدوى، وعليه يصبح الجسم مصدر لتجلي الروح على وفق هذه المشابهات المجازية.([1])

وعليه فان ارتو عندما عجز عن التعبير عن افكاره بالكلمات فقد لجا الى استخدام الاساطير واللغات الميتة، وبهذا فان الفعل المسرحي عنده يتسم بالغموض.

وكذلك فقد وجد (كروتوفسكي) فيما بعد في مسرحه الفقير، ان فعل الممثل يرتكز على قدراته الجسدية والصوتية، بحيث يصبح فاعل الفعل عنده (ممثل وخالق وقديس) لانه هو الاخر ذهب الى منهج انثروبولوجي في توجهه العام على اعتبار ان المسرح ينبغي ان يهتم بـ(العلاج البارا مسرحي) وانه هو الاخر يسعى لتقديم عرض طقسي يستمد جذوره من البدائية الموغلة في القدم معتمدا في بناء الفعل على الطاقة العضوية للممثل ومكامنها في الاشارة السحرية والجسد والحركات البهلوانية بهدف تعرية الطبيعة الروحية من خلال التضحية بالجسد.([2]) ولهذا فقد اهتم كروتوفسكي في مسرحه الفقير بان تكون القاعة ميدانا للفعل المسرحي.

وعليه فان محاولة ايجاد مقاربة بين مفهوم التطهير التراجيدي ووعي كروتوفسكي لتجربة المسرح الفقير، فان مفهوم (التطهير) كمفهوم يتصل بالفعل المسرحي هو مفهوم شامل للنوازع الانسانية والمكبوتات الداخلية الكامنة في اللاشعور وبهذا يكون اداء الفعل يستدعي ممثلا على جانب عال من الحساسية والقدرة، بوصفه العنصر المتيسر في التجربة المسرحية، فالمسرح الفقير بتركيزه على دراسة الفعل الداخلي، انما يريد الايغال في الفعل الى عمق من ما ذهبت اليه الواقعية النفسية والتي سبقته الى اكتشافه لذا فقد ذهب لمحاكاة خصائص اللاشعور المدفونة في الذات البشرية وهذه منطقة سايكولوجية تقدم اليها من قبل (مسرح القسوة) في عودته للطقسية والبدائية على يد (ارتو).

اما عند فرقة (مسرح القسوة) التي اسسها (بيتر بروك) ضمن تشكيلة الفرقة الملكية الشكسبيرية فقد كان منطلق تاسيسها هو مجموعة من الاسئلة كما يشير (بينتللي) وهي تتمحور حول … هل هناك لغة اخرى مناسبة للمؤلف، اكثر من لغة الكلمات، وهل هناك لغة افعال؟ لغة اصوات؟ لغة الكلمة باعتبارها جزء من الحركة؟([3]).

ان (مسرح القسوة) يقوم بمجموعة من التجارب في الطقوس باعتبارها نظم منسقة متكررة وكان هدفه تقديم معاني اكثر وبزمن اقصر عن طريق البناء المنطقي التقليدي للفعل، لذا فان (بروك) يطمح الى جعل المخفي مرئيا عن طريق الحضور المادي للممثل- وهو لا يعتمد الالية التقليدية لمنطقية الفعل والاحداث في البناء وانما يعمد الى ما يسمى (بالقص واللصق) (بالمونتاج) فهو يطالب بان يكون اداء ممثله (متراكب من عدة لحظات مختلفة، وغير منتظم وبمعنى اخر هو اداء اللحظات او قصات غير مرتبطة وغير منتظمة)([4]) وكذلك فان (بروك) يطمح الى ان يخدع المشاهد في بنية الفعل وذلك بتقديمه الواقعة التي تجعل من المشاهد ينظر للعرض بمنظور جديد، حيث ان قانون البناء الارسطي للفعل يختل وتصبح لا منطقية الاحداث حيث يؤكد بروك ان (بؤس الواقعة السيئة يكمن في كونها حقيقة مرئية وقابلة للتصديق)([5]) لذا فقد استعاض (بروك) عن التجسيد التقليدي للفعل، بمجموعة من الاستجابات تاتي مبنية بعضها على بعض، فالمشهد يخلق مجموعة من الانفعالات والاستجابات فعمد في ذلك الى تدريبات كان يطلق عليها (الارتجال المتقطع) لذا فهو يبحث عن نصوص لا تهتم بالتركيز على تقليدية الصراع او حركة الحدث من عرض الى ازمة وانفراج وانما يختار نصوص ذات بناء يشبه البناء الروائي حيث تزدحم الاحداث، وربما من هنا جاء اختياره لمسرحية (ماراصاد) مثلا حيث يبتعد فيها عن الطبيعية والمنطقية في تقديم الاحداث والشخصيات ويتصل بالزمن دون ان يلتزم بشيء وهذا يمكن ان ينطبق على اكثر تجاربه في المسرح.

ان قراءة متانية للمقتربات النظرية التي تحكم حركة الفعل المسرحي واتجاهاته عند (بروك) تجعلنا نجد انه شانه شان (ارتو) من قبله وهو يقترب ايضا من كروتوفسكي في العودة الى الانماط الاصيلة، والدعوة الى البدائية والبحث عن جوهر الطقسية الروحية لسالفيه بوصفها محركا للنوازع الانسانية المغروسة في اللاوعي الجمعي وباسقاط هذا الفعل على المتلقي بوصفه مشاركا، فانه يمكن ان يؤدي الى نوع جديد في فهم (التطهير) الذي تواصلت تجارب المسرح الحديث معه بالاختلافات احيانا والتمردات احياناً اخرى وصولاً الى التجارب الراهنة حيث يأتي (يوجينوباربا) الذي كان قد اطلع على تجارب وتدريبات (كروتوفسكي) وتعارض معها، ولكنه استمر في البحث الذي بداه (كروتوفسكي) من حيث العمل على السياق النفسي والفسيولوجي، والسعي لبناء لغة مسرحية عن طريق تحويل الانفعالات التلقائية الى حالات خاصة من الالم والرغبة والخوف متوجا ذلك كله بدراسات نظرية في الانثروبولوجيا والتحليل عبر الثقافات المتداخلة وتوظيف التراث الشرقي مستخدما اسلبت الجسد بديلا لسايكولوجيا الممثل وهو يرى بان (انثروبولوجيا المسرح هي دراسة السلوك المشهدي لـ ما (قبل التعبير) الذي يوجد كاساس لمختلف الاجناس والاساليب والادوار لتقاليد الشخصية الجماعية)([6]) وعليه فان دعائم الفعل في العرض (الانثروبولوجي) تنهض على مبدا المقايضة الناجمة عن مواجهة الممثل للجمهور في المشاركة الطقسية، المنبعثة من الاسلوبية الثقافية.

…بينما يذهب (كانتور) الى ان أي موقف درامي يبدا من (الصفر) فينمو تصاعديا واقترابا من ردود الافعال وهو يرى بان فن التصوير التجريبي ينهض من تلاقح البنيوية والسوريالية والدادائية والهابينن المبرزة بالاشكال السينوغرافية.([7]) وهذا ياتي من كونه مخرجا ومصمما وفنان تشكيليا.

وهكذا فان معظم الاتجاهات التجريبية الحديثة قد توجهت نحو المتفرج، وكان يجمع بين هذه الاتجاهات هاجس واحد هو هاجس العناية بالمتلقي لهذا لجا كتاب هذا المسرح الى ابتداع اساليب ونظريات تنطلق من المبدا القائل (بان على المتفرج ان يتجرد من وضعيته كمتامل ليشارك في الفعل المسرحي، وهذا ما دفع المسرحيين الى تحويل الاماكن المسرحية، بهدف خلق تواصل متبادل يلغي التواصل الاحادي، وكما قال (جوليان بيك) عميد (مسرح الواقعة) لا نريد ان نفعل من اجل المتفرجين ولكن نريد ان يفعلوا مباشرة من اجل انفسهم)([8]).


النتائج:

1-   حدد ارسطو الفعل بانه روح الدراما فكان محور التركيز في تنظيره للدراما التي اعتمد فيها نموذجه القدري والذي اقترن فيه المعنى بمحدودية المطلق. واقترنت عناصر الدراما فيها بالفعل الذي يعرف بتلك العناصر فالشخصية عرفت بوصفها (فاعل الفعل) والنغم بوصفه (ايقاع الفعل) والمنظر بوصفه (بيئة الفعل).

2-   وضع ارسطو قانونا حكم فيه الفعل المسرحي كبنية فنية تامة لها (بداية ووسط ونهاية) فكانت الدراما محاكاة لفعل نبيل تام.

3-   اشرت الواقعية النفسية الاحترام الاكثر لصرامة تلك البنية الى حد كبير في الحفاظ على وتائر التصاعد وبناء النهاية في الفعل المسرحي.

4-   سجلت مظاهر ما بعد الواقعية النفسية وخلخلة قصدية لمصير الفعل وخروجا واضحا على حدود تلك البنية الارسطية من خلال مايرهولد وفاختانكوف.

5-   اكتسب الفعل الدرامي صيرورة متغيرة في التعبيرية والمسرح الملحمي وخروجا على البنية المطلقة التي حددها ارسطو من قبل ومن ثم (فيرتاج) وغيرهم ممن شدد على ان الفعل(بداية-تصاعد-وسط يتصاعد- نهاية). لذا فان المصير الذي الت اليه هذه البنية في التعبيرية هو (تصاعد فعل ثم توقف ثم تصاعد فعل ثم توقف وهكذا).

6-   تمظهرت اهمية الفعل في تيارات واتجاهات المسرح الحديث بالعلاقة بين العرض والمتلقي فظهرت اتجاهات تركز على الانفعال ولغة الجسد حتى صار المقصود هو نتيجة لمواجهة الممثل مع الجمهور في مشاركة طقسية وصارت بنية الفعل تحيا في فضاء ذلك الطقس.

7-   اتسمت مظاهر الفعل في اتجاهات المسرح الحديث بالاقتراب والابتعاد فيما بينها غير انها تمردت على البنية الارسطية بعد ان اتسم الفعل بالخضوع لنسبية المعنى وغياب المطلق.

Comments are disabled.