جرت مناقشة اطروحة الدكتوراه الموسومة(التمثلات الفكرية للمهمش في الخطاب السينماتوغرافي) في الفنون السينمائية والتلفزيونية / فنون تلفزيونية للباحث (عمار ابراهيم محمد الياسري) وبأشراف(أ.د.طه حسن عيسى الهاشمي)
يرى الباحث ان دراسة التمثلات الفكرية للمهمش في الخطاب السينماتوغرافي , مردها التحولات التي مر بها الفكر العالمي على وفق الطروحات الفلسفية ، فما كان متسيدا في حقبة ما اصبح متنحيا ومهمشا في حقبة لاحقة ، بيد ان الطروحات الفلسفية التي مهدت لصناعة الفكر انطلقت من طروحات متنوعة مثل المدرسة الطبيعية والابيقورية والرواقية والسفسطائية اختلفت في طروحاتها فمنها من اولت السيادة للماء والنار واعتبرتهما غايتا الوجود ومنها من عدت اللذة هي الخير الاسمى وهمشت الشر ومنها من سيدت قوانين الطبيعة وهمشت ما عداها ومنها من اولت السيادة لعالم الحس الدنيوي ، اما الفكر الاغريقي فقد تنوع المتسيد فيه فتارة يكون متمثلا بالغائية وتارة بالمثل العليا وتارة اخرى في الشروط الموضوعية للجمال في الواقع وكل فكر يهمش ما يراه غير متوافق مع قراءاته الجمالية ، اما الفكر الاسلامي وعلى الرغم من ربطه الدين بالفلسفة الا انه تاثر كثيرا بالفكر الغربي ، فتارة تتسيد المثل العليا وتارة اخرى المنفعة وقبالة المتسيد هناك مهمش منزوي ، وبعد ردح من السنين ومع بروز الفلسفة الحديثة ظهرت مدارس فلسفية تعلي من قيمة العقل كما يتبين ذلك في طروحات (ديكارت) و(سبينوزا) و(لبينيز) او تعلي من شأن التنوير كما اراده (كانت) ، في حين ذهب (هيغل) الى الروح المطلق وذهب (شوبنهاور) الى التشاؤمية وذهب (برجسون) الى اعلاء قيمة الحدس ، فكل فكر يعلي ما يراه مناسبا ويهمش ما لا يروق له ، اما الفكر الفلسفي الما بعد حداثي فقد اعاد قراءة الفلسفة بصورة مغايرة مقوض بذلك الافكار العقلية والمثالية والتنويرية وما الى ذلك ، فقد اولى للمهمش الانساني أهمية كبرى من خلال انفتاحه على اليومي المتداول والانزوائي والمهمل ، ومشتغلا في الوقت ذاته على خرق للمقدس والعقلاني والعدل الما ورائي .
ان الفكر الفلسفي الما بعد حداثي تشكل من طروحات فلسفية كانت مهاداتها الاولى الطروحات الفلسفية (لفريدريك نيتشه) التي اطاحت بالسلطات بكل تمثلاتها من خلال موت الاله ليرفع عن كاهل الانسان المهمش كل الاثقال السلطوية التي ادت الى استلابه الوجودي ، في حين ذهب (هيدغر) الى الفلسفة التدميرية لكل القيم الميتافيزيقية واحلال الهوامش محلها ، اما الفيلسوف الفرنسي المعاصر ( جاك دريدا) فقد ضرب المركزية الفكرية الفلسفية المتعالية عبر طروحاتها العقلية والمثالية واللاهوتية المتوارثة معلنا ثورة هوامشه الفكرية الآسرة عبر استراتيج قرائي مغاير كانت المحمولات الفكرية ل(نيتشه) و(هيدغر) تترائى بين سطوره الا وهو استراتيجية التفكيك ، في حين ذهب (فوكو) الى الانسان الهامشي والمجنون والمبعّد والمنبوذ الذي يرى فيه القضية الأساسية للفلسفة الجديدة والانقلاب المعرفي الجديد ، اما (ليوتار) فقد رأى سقوط السرديات الكبرى فتح الباب لفلسفة المهمش والمنبوذ ، اما (ادوارد سعيد) فقد ذهب الى دراسة الهويات الثقافية والصراع ما بين الخطاب الكولونيالي والخطاب ما بعد الكولونيالي والاستشراق وما الى ذلك منظرا الى ابراز الهوية الثقافية لمن وقع عليه حيف الاستعمار ، ان هذه التحولات الفكرية لاسيما في فلسفة ما بعد الحداثة اولت للمهمش والمنزوي دورا سائدا مما جعل الباحث يبحث في تجلياتها الفلسفية وتمثلاتها السينماتوغرافية ، مؤكدا على تحولات المهمش نحو السيادة في الفكر الفلسفي الما بعد حداثي .
شهد الفصل الاول من الاطروحة مشكلة البحث والتي تبلورت في التساؤل التالي : ماهي التمثلات الفكرية للمهمش في الخطاب السينماتوغرافي فيما كان الهدف من هذا البحث هو : الكشف عن تلك التمثلات في الخطاب السينماتوغرافي أما حدود البحث الحالي فقد انحصرت بثلاثة حدود ، كان الحد الموضوعي معني بتمثلات المهمش الخطاب السينماتوغرافي ، اما الحد المكاني فقد كان متنوعا ، فيما حدد الباحث حده الزماني بالالفية الثالثة.
أما الفصل الثاني فقد ضم الإطار النظري والدراسات السابقة , وجاء على ثلاثة مباحث, تضمن الأول منها تمثلات المهمش في الفكر الاغريقي والاسلامي ، اذ تطرق الباحث فيه الى التمثلات الاولى للفكر العقلائي المتمثل بالمدرسة الطبيعة والابيقورية والرواقية والسفسطائية ومن ثم تناول الباحث الفكر الاغريقي مناقشا ومحللا اراء فلاسفته في المتسيد والمهمش ثم أنتقل مدرسة الاسكندرية ثم طروحات الفكر الفلسفي الحديث مستعرضا ومناقشا اراء فلاسفته ، لينتقل الباحث بعدها الى الفكر الفلسفي الما بعد حداثي مستعرضا ومحللا طروحات فلاسفته مبينا تحولات المهمش نحو السيادة في الفكر الفلسفي الما بعد حداثي ، أما المبحث الثاني فقد كان بعنوان التيارات الفلسفية المنبثقة من فلسفة بعد الحداثة وتمثلاتها السينماتوغرافية وبعنوان فرعي تحولات المهمش نحو السيادة ، وقد بين الباحث فيه نشوء فلسفة ما بعد الحداثة والأشكال الفنية التي تنتمي لهذه الفلسفة موليا الخطاب السينماتوغرافي الاهمية الكبيرة ، ومن ثم استعرض الباحث مناقشا ومحللا التيارات الفلسفية التي افادت كثيرا من فلسفة ما بعد الحداثة والتي اولت للمهمش السيادة الكاملة والكيفيات التي تمثل بها المهمش سينماتوغرافيا ، ومن هذه التيارات الزنوجة والنسوية وما بعد الكولونيالية والجنسانية والتاريخانية والنقد الثقافي واستراتيجية التفكيك مبينا ما كان منها منظومة ثقافية تشكلت منها مختلف الاجناس الفنية لاسيما الخطاب السينماتوغرافي وما كان منها منهجا قرائيا ، فيما كان عنوان المبحث الثالث تمثلات المهمش سينماتوغرافيا .. النظرية والتطبيق ، وقد ناقش الباحث فيه محورين كان الاول بعنوان تمثلات المهمش في النظريات السينمائية مثل الواقعية الملحمية والواقعية الجديدة والموجة والرنسية والسينما الثالثة والواقعية القذرة ، فيما كان المحور الثاني للمبحث الثالث بعنوان الانساق السمعبصرية للمهمش في الخطاب السينماتوغرافي وقد ركز الباحث على نسقين مهمين هما الجسد المهمش لما للجسدنة دور كبير في كشف فلسفة المهمش والمكان المهمش على وفق ثنائية المكان المعادي والمألوف (الباشلارية) مع تبيان علاقة هذين النسقين مع باقي عناصر الوسيط السينماتوغرافي لينتهي الفصل بجملة من المؤشرات التي أفادت منها الباحث في تحديد أداة بحثه والتي كان لها دورا مائزا في عملية تحليل عينات اطروحته .
أما الفصل الثالث فقد عرض فيه الباحث إجراءات البحث إذ شمل ذلك مجتمع البحث وطبيعة اختيار العينة فيه واداة التحليل وصدق الاداة ووحدة التحليل .
في حين تضمن الفصل الرابع تحليل عينات البحث وقد حددها الباحث بأربع عينات تستقيم مع اداة التحليل لأسباب ذكرها في الفصل الثالث من الأطروحة ، كانت الاولى فيلم عن تيار الزنوجة بعنوان (12 سنة عبدا) للمخرج (ستيف ماكوين) والثانية مسلسل عن تيار النسوية بعنوان (سجن النسا) للمخرجة (كاملة ابو ذكري) فيما كانت الثالثة عن التيار الجنساني بفيلم عنوانه (الخبز الحافي) للمخرج (رشيد بلحاج) والرابعة عن التيار ما بعد الكولونيالي بفيلم عنوانه (العائد) للمخرج (اليخاندرو غوانزليس ايناريتو) ليخلص الباحث بعد تحليله الى مجموعة من النتائج والاستنتاجات ، ومن النتائج المستخلصة :
1- تجسدت تمثلات المهمش بكل تجلياته في عينات البحث من خلال صوغ صناع ذلك الخطاب على وفق الطروحات الفكرية لفلاسفة ما بعد الحداثة مثل (ادوارد سعيد) و(فرانز فانون) (ميشيل فوكو) و(جاك دريدا) و(بورديار) فضلا عن التيارات الفكرية المنبثقة منها مثل الجنسانية والزنوجة والنسوية وما بعد الكولونيالية التي تؤمن السيادة للمهمش .
2- اتسمت خطابات المهمشين في عينات البحث بإحتوائها على فعلين دراميين ، الاول فعل مركزي سلطوي ، والثاني فعل مضاد خاص بالمهمش ، اذ يعمل الفعل المضاد على تقويض الفعل المركزي والتسيد مكانه ، ، فتارة يكون الفعل المضاد اجتماعيا ، وتارة اخرى ثقافيا وتارة اقتصاديا وتارة اخرى يتخذ من العنف بنية سائدة .
اما الاستناجات فمنها :
1- ان عتبات النص من عناوين ومقدمات وملصقات ترويجية في الخطاب السينماتوغرافي تعدا تعبيرا مفاهيميا لتمثلات المهمش صاغها صناع الخطاب السينماتوغرافي على وفق التيارات الفكرية والطروحات الفلسفية التي نظرت له .
2- يرى الخطاب الزنجي السينماتوغرافي ان تقويض خطاب العرق الابيض الاستعماري يتطلب عملية ازالة تاريخية ، إنها لقاء قوتين متعارضتين أصلاً بطبيعتهما ، لقاؤهما الأول اقترن بالعنف ، ووجودهما معاً ظل مقترناً بالعنف على الدوام .
3- يتباين الخطاب النسوي السينماتوغرافي في تقويضه للبطرياركية الابوية ما بين الحركتين الامريكية والفرنسية ، فالامريكية ترى وضع الخطاب النسوي في تكوينه البايلوجي في حين ان الفرنسية اقل حدة من ذلك ، الا انهما يتفقان على صياغة محمولات خطابهما بتراكيب لغوية نسوية او بصرية خارجة عن وصاية الذكورة دينيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا وما الى ذلك .
4- يتأسس الخطاب الجنساني سينماتوغرافيا على ابراز المرجعيات التي ادت الى الشذوذات الجسدية ، كما انه لا ينفي صفة الابداع والتميز والقدرة على التغيير للجسد الجنساني .