إن (الجسدي) بما هو وحدة الخطاب الجمالي للأشكال النّحتية سيطرأ عليها تغيرات شديدة وأحيانا حادة، ليس بين حضورها أو غيابها فقط، وإنما حتى على مستوى الأداء الأسلوبي والتّنفيذ التّقني، غير أن الخاصية الأهم في إشكالية الخطاب الجمالي للجسد في النّحت الحديث هي خاصية (الغياب) الجسدي أكثر من خاصية (الحضور). بمعنى أن الفن الحديث أخذ يشكل خطاً آخر في انطلاقته من (الذّاتي) و(العقلاني) و(العدمي)، وهو إلى حد ما انحراف في المسار الطّويل الذي استعمل فيه الجسد منذ الكهف حتى الأشكال في البنائية وفي الدّادائية.
غير أن هذا الانحراف في التّداول الاصطلاحي الشّكلي للجسد لا يعدو كونه استجابة للمتداول الجديد، فـ(الأشياء) التي حولنا أخذت تعني أنها ما يمثل الاهتمامات الجديدة التي يحولها الفنان إلى معانٍ ورموز بعد أن يستثمرها كتكوينات بصرية جمالية، فهي أشكال جديدة تتطور بفعل معرفي مكتسب، وأحيانا تضاف إلى الأشكال الجسدية القديمة بعد تحقيق إدراكها كذلك.
إن الفن يؤسس حقيقة أخرى، غير تلك التي كان يؤسسها (الجسد)، والخاضعة دوما إلى نظام من المتعالقات، وبشكل عام يمكننا تشخيصها في ثلاثة مسارات، فهي إما أن ترتبط بما هو يمثل الحقيقة الموضوعية المتغيرة بتغير الأنظمة العامة أو المسببة لها، وإما تكون خاضعة لمنطق الفكر العام في حدوده الزّمكانية المتبدلة، أو هي خاضعة لمبدأ النّفع والإفادة أحيانا. فنحن وان قلنا سابقا بأن التّحول الشّكلي للجسد إما أن يكون في تبادل أدواره بين الموضوع واللّاموضوع أو بين الواقع واللّاواقع، إلا انه يمكننا أن نبين ظاهرة الخطاب الجمالي للجسد في النّحت الحديث بطريق آخر كما سيأتي، خاصة وان الفكر الظّاهراتي معني برصد الظّاهرة كوجود ظاهري عياني بما هي تمثيل للمرئي الماهوي، ومعني بدراسة الظّاهرة بوصفها تمثيلا للـ(لامرئي) فيها كذلك. فالأداء الجمالي في صياغة الأشكال الفنية يشير إلى وجود الواقع المتقابل مع الواقع ذاته، كما أوضح ذلك (هيدجر) في كتابه (أصل العمل الفني)، فالجسد الفاعل والمنفعل في الخارج ما هو إلا مساحات تأويلية، حامل رمزي لمضامين الأفكار، فهو ليس بذي فاعلية بما هو جسد فني، كتلك التي كان يتصف بها بما هو جسد فيزيقي، وما علينا في نهاية الأمر إلا التّعامل معها كظاهرة.
لقد اخذ الفن يعني في كثير من الأحيان تحديدا في مرحلة الحداثة بأنه (الفكرة المبتكرة)، بناء على معطيات دافعية التّجريب، وهو بذلك استلزم أن تكون له مهمة، كثيرة الشّبه من مهمة العلم، كعمليات كشف وتحليل وتركيب، وعمليات تقسيم وتصنيف، فالبحث عن معطيات تجعل من الشّيء أنموذجا له القدرة على الإيصال والإبلاغ، هي تلك المعطيات التي تعطي للعالم قوام نظريته، ومهما تعددت أو تغايرت تلك المعطيات فالاختلاف لا يمكن أن يكون إلا بالمادة وكيفية استخدامها أو تناولها؛ لان البحث هو الصّفة الجوهرية التي يتصف بها الفن الحديث والعلم على حد سواء، بل ولعل أول أشكال المعرفة البشرية التي تجلت بشكل تدين له البشرية ذاتها تلك التي خطها (الفن) في تشبيهات بصرية، لا بوصفه ضرورة كما تقدم، بل لأنه فعلا يشكل أولى محطات التّدوين المعرفية، وهذا يبدو جليا في مساره الواضح، وفي ما لو أبدلنا محل لفظة (الفن) لفظة (الجسد)، سندرك الخطورة التي يمثلها ما هو جسدي في نظام التّواصل وبشكل بلاغي دؤوب ومن دون انقطاع، خاصة إذا ما نظرنا إلى الأجساد في الأعمال الفنية التي تشكل ظاهرة حتمية في التّداول، على أنها تمثل نوعا من الإسفار عن المشاعر الدّاخلية كذلك، فهي ذات مدلول بلاغي، غير انه على وفق منطق الحداثة ليس بالضّرورة أن يكون الإسفار مما يتعلق بالموضوع، ذلك الذي يعني محل اتفاقنا عليه في الخارج، فقد يكون متعلقا بما يعني للذات انه تنفيذا لصورها الذّهنية أو الحدسية، فحينها سوف لن تكون الأعمال الفنية تسعى لمطابقة الواقع، إنما سعيها لمطابقة الصّورة الذّهنية بشكل يحيل الخامات المتعددة إلى وسائط لإظهار الفكرة. وهنا علينا أن نجابه منطقة أخرى في الفن الحديث، غير تلك التي تمثل المفاهيم التي تشير إلى غياب ما هو جسدي، في الأقل كحدود كفافية. وهي القيمة (القيمة الابلاغية).
ترى كيف تحمل هذه الأشكال المجردة قيما إبلاغية، أم هي مجرد أشكال لا تحمل في تركيبها نمطية الوصف والحكاية؟. ليس القصد أن نبتعد كثيرا عن آليات الخطاب الجمالي للجسد، فلا شأن لهذه الدّراسة بأحكام أو قواعد الإبلاغ وكيفية استخدامها في الشّكل المجرد، وإنما القصد هو: أن يُلفت القارئ إلى عدم وجود قيم ابلاغية في الأشكال المجردة، خاصة وانه قد أطلق عليها بأنها تمثل الفن اللّاموضوعي. وبعبارة أخرى: كيف يكون للشكل المجرد في فن النّحت قادرا على بلوغ المعنى أو حمله في بنائه الشّكلي، كمضامين فكرية، وهل يعقل أن يكون تداول العقلانية (الجديدة) هو تداول خال من المعنى ومن الموضوع؟، وحينها سوف لن يكون إلا نوعا من الأداء العبثي.
وهذا خلاف منطلقات الحداثة ذاتها؛ الأمر الذي يؤكد أن الخطاب الجمالي لم يعد معنيا بأشكال الجسد بما هو جسد خارجي، وإنما هو مهتم بتجريدات (العقل) والمفاهيم الذّهنية، وحينها أصبح الفن يؤكد حضور اللّامرئي في الخطاب عوضا عن المرئي. انه يحترم وجهة النّظر والرّؤية الذّاتية على حد سواء.
إذاً فغياب الجسد يعني حضور المفهوم أو الصّورة الذّهنية، خاصة وان عملية الإدراك عموما هي من صفات الكائنات العاقلة، وهي عملية يؤدي فيها التّخيل والنّظر دورا مهما، حتى قيل وفي كثير من المواضع بأن فن الحداثة هو فن الخيال والتّركيب الصّوري لمفاهيم وصور الذّهن. وقد ساعد على ذلك وبشكل علمي تنظيرات الفكر الوجودي وأطروحات علماء النّفس في الخيال والمخيلة، إلا انه وبشكل ما على المخيال أن يوافق بين الصّورة وصور المواد الجاهزة أو مخلفات الصّناعة، وكلّما كانت عملية البحث لما يعين الصّورة على الظّهور في مواد التّقنية كلّما كان تحقيق الشّكل اقرب إلى الفهم والتّداول والحساسية الجديدة في التّلقي، وهذا يعني أن الأشكال تنطلق من صورة كلية، تؤكد الذّات فيها حضورها، على أنها لها، وعلى التّلقي أن يدرك بأن هذه الصّور الجمالية سواء أكانت جسدية أم لا، إنما هي تمثلات للجزئي في مقابل ذلك الكلي الذّهنوي لان ” النّظرة الإجمالية دائما تسبق النّظرة التّحليلية ولا يمكن إدراك العلاقات بين الأجزاء ما لم يستكمل إدراكنا الشّيء المدرك بأكمله لأنه لا معنى للأجزاء منفصلة بعضها عن البعض بل يتوقف معناها على موقفها في سائر الأجزاء”. وبهذا فان صياغة الأشكال اعتمادا على محاكاة الذّهن لا يمكن لها أن تكون إلا أشكالا قصدية، يعكس فيها ما هو (ذهني – ذاتي).
ولنعد نذكر بما مرَّ في الفصل السّابق بأن الإنسان اعتمد في خطاباته الأولى على لغة الشّكل، إلا انه ومنذ الوهلة الأولى التي وجد فيها الشّكل ليمثل (الفن)، كان وما زال منشطرا إلى هذين القسمين (جزئي أو محاكاتي، وكلي أو غير محاكاتي)، وفي جميع المعالجات الحسية أو العقلية، وما هذه المعالجات إلا لون من ألوان التّفكير، لم تأتِ فجأة من دون تجريب، وإنما هي حصيلة للمعايشة الجادة مع الواقع ومظاهره، فكانت الدّوافع المحركة للإنسان تنشطر كذلك إلى القسمين أنفسها، وليس هما سوى الطّبيعة ومظاهرها الجزئية، وما بعدها كالمفاهيم الكلية. ولليوم حتى في هذا القرن، لم تأتِ النّاس بفكرة مغايرة، فأول ما وجدت الأشياء كمفاهيم صورية ذهنية عرف الإنسان أنها تقسم على مادية وروحية، الأولى منها جزئية والثّانية كلية.
وهنا يجد الباحث أن يقوم بعملية تحديد للمفاهيم. فمن خلال ما سبق نجد أن الشّكل غير منفك عن كونه يمثل الجزء أو الكل، فليس الشّكل هنا سوى مفتاح من خلاله يتم الدّخول إلى بوابة المعنى؛ لان العملية الإبداعية إن لم تكن مؤطرة بإطار القصد فهي مؤطرة بإطار الوعي. والمنتج الفني الذي يعد محصلة نهائية، ليس هو إلا تجلٍ لهذه العملية الإبداعية، وبما انه لا يوجد منتج فني يتعامل مع الموضوع يخلو من الشّكل، إذاً يتوجب علينا دراسة الشّكل من خلال تحديد مناطق اشتغاله المتباينة وتنوعها أو تغيرها. ولأجل التّبسيط والدّقة في تناول الموضوع على الباحث أن يؤكد ذلك التّأثير الذي أحدثته النّزعة التي كادت أن تصبح نظرية منفصلة في الفن الحديث، وهي نزعة (الفن للفن)، ” تلك التي حاول التّأكيد عليها الشّاعر الفرنسي (بودلير)، فقد حاول هذا الأخير أن يأتي بموقف يتعارض مع مبدأ غائية الفن، أو غلبة الخطاب النّفعي على الفن، وبالتّالي مكوث الجسد في توظيفات جمعية ذات مغزى اقرب إلى مفهوم الوثيقة والأرشفة منها إلى مفهوم الفن، فقد ولدت هذه النّزعة على أساس قناعة الفنان على أن لا ينتج [سلعة] في عالم أصبح كل ما فيه قابلا لأن يكون [سلعة] مخصصة للبيع”، وهي كنزعة لقت لها أرضية ورواجا كبيرين مع ما أحدثه تفعيل طروحات الجانب الذّاتي من آثارٍ في المنجز بوصفه منجز التّوجه الفرداني، وانفتاح مقولات الأدائي التّقني في تنظير المفكرين، مع ما مر به المجتمع الأوروبي من ثورات سياسية وثورات شعبية وغير ذلك. هذا كله ساعد على أن يكون الإحساس بالعزلة هو الإحساس الشّائع، خاصة وانه قد تم مسبقا رفض كل ما من شأنه أن يكون مصدرا لتوحيد وجهات النّظر في قوالب كبيرة كالدّين والأخلاق والمثل ومحاولة إنشاء علاقات جديدة في مجتمع صناعي جديد سرعان ما تخلى عن لباس القبيلة ومفاهيم الجذب الاستغلالي لكينونة الفرد، كموجود سرعان ما ارتدى رداء المواطنة التي أخذت تعني أنها الحل في الخلاص المنشود، خاصة في تفعيل دور الثّقافة والصّحف اليومية وتعدد وجهات النّظر وغير ذلك من قواسم مشتركة آمن بها أبناء الحداثة، على الأقل في بداياتها، لكن سرعان ما أتضح للمفكر الغربي (ميشيل فوكو) أن هذه القطيعة التي جاءت بها المواطنة إنما يراد بها وبشكل صريح تفعيل مفهمة (ترويض الأجساد)، تحديدا عندما تكون التّقنية السّلطوية التي تهدف إلى استبدال المواقع السّتراتيجية للكثافة الجسدية، وإيجاد العزل والإقصاء الممنهج الذي كان غرضه استثمارا سياسيا يحيل الإمكان الوجودي الجسدي إلى مفردة استعمالية تحت مصطلح (بايو-سياسي)، وهنا تمت السّيطرة على توجهات العقل وعلى الجسد، كما يشير إلى ذلك مطاع صفدي في كتابه نقد العقل الغربي، ومحمد علي الكبيسي في كتاب له عن (ميشيل فوكو) نفسه.
فهذا التّعامل مع الجسدي فسح المجال في نشوء عملية إبداعية جديدة لم يسبق أن طرحت على طاولة التّاريخ الجمالي، وهي كرد فعل تجاه ذلك العالم الذي أصيب بمرض الـ(أنا)، حتى أخذت تنهش فيه كل روابطه، فلم يكن حينها سوى اللّجوء إلى اغتراب الذّات للخلاص من سلطة الفرد المتحكم بثوب الموضوعية التي اثقلت كاهل الفرد المحكوم. فقد ” شجع ظهور الأنا النّابوليونية وهي في الوقت نفسه (أنا) المتباكية على إقدام العصور المقدسة الـ(أنا) المتأهبة لافتتاح العالم، وهي مع ذلك مغمورة برعب الوحشة. إن أنا الفنان والأديب، المنعزلة والمنطوية على ذاتها، والمناضلة من أجل الحياة، عن طريق بيع نفسها في السّوق، تتحدى مع ذلك العالم القائم على التّمايز والتّفاوت الاجتماعي، وتعلن عن عبقريتها، وتحلم بالوحدة المفقودة، وتتوق إلى حياة جماعية يصورها لها خيالها”.
وفي عودة إلى ذلك الانكفاء على الذّات والعزلة والطّرح الجمالي المغاير والجديد الذي حفز على ظهور أشكال انفصالية كذلك. انفصاليتها في عدم احتوائها على المعنى، أو الموضوع وإنما هي مجرد أشكال، تثير فينا دفق التّأويل لا غير، وفي عودة إلى سلسلة الخطاب الجمالي للجسد وإشكالية التّحول فيها. عبر دفق عطائها في (الماقبل، المابعد) سندرك أن الحداثة جاءت لتترك الجسدي، وتتناول الأشياء بما هي مستهلك ويومي وسلعي، وهذا يعني أنها أقامت دعوى للانفتاح على الوجود وما فيه من ممكنات أخرى غير الجسد، وهذا هو انحراف الحداثة الذي رفضه المتطلعين والمفكرين، بدءاً من معرض المرفوضات وما تلاه من تجارب وبيانات للاتجاهات الفنية الحديثة. التي تؤكد على الفكرة أكثر من تأكيدها على الحكاية أو القصة الجسدية.
غير أن هذا الانفتاح الذي يؤكد حضور الفكرة في الفن أدى إلى تنوع الخطاب الجمالي في مجموعات أسلوبية تحدد سماتها الدّراسات النّقدية في تحقيبات موسومة باتجاهات فنية أو جماعات أو مدارس، وهذا الاشتغال إنما هو اشتغال في حدود التّوثيق والتّاريخانية، وهو الآن مفروغ منه، بل وأشبع درساً وبحثاً كذلك. إذاً كيف يتسنى لنا دراسة الجسد كظاهرة في الخطاب الجمالي الحديث؟.
يرى الباحث أن الحل الأمثل هو النّظر إلى فاعلية الجسد في النّحت الحديث من خلال متابعة أو تقصي الحدود الكفافية له عبر إشغالاته في المدارس الفنية. فتقصي المحيط الكفافي للأجساد يمكننا من كشف جغرافية الأشياء ويجعلنا نميز بين ما هو جسدي وبين ما هو ليس بجسدي. فضلا عن ذلك فالمحيط الكفافي للجسد هو أول ما يمكن أن يتشكل في العمل الفني، كما وله خاصية التّفريق بين ما هو ذكوري وأنثوي عبر الصّورة التي يحددها المفهوم الـ(سكسيولوجي)، فهو بمثابة المؤشر لبيان هوية الجسد من جهة جنوسية، كما أن هناك ميلا شديدا للمحافظة على الحدود الكفافية في صياغة الأشكال الفنية، تلك التي تمثل الجانب المحاكاتي أو الواقعي.
بمعنى أن الاستفاضة في دراسة الجسد بشكل حقيقي أو مطابق له، سيجعل من حدوده الكفافية أن تبدو وكأنها شديدة الارتباط بالواقع العيني ذاته، وهناك ميل رافض للتمثيلات الواقعية، فهو يقدم تكويناته الجسدية كنوع من الابتكار الجديد، وهنا يقوم الفنان بإضافة كل ما يمثله في خصاصة الذّات، بدءاً من الخامة أو مجموعة الخامات وانتهاء بالأسلوب وطريقة التّنفيذ والعرض، ولا شك في أن هذه الأعمال تؤكد ما هو خارجي ظاهري له ارتباط بالسّطح والملمس واللّون والفضاء، أكثر مما له ارتباط بالشّكل ومطابقته للواقع، فهو تفعيل لما هو جوهري مفهومي متعلق بالفكرة الذّهنية. وهناك ميل كذلك لغياب السّطح والشّكل الكفافي في حدوده الجسدية، لأنه بدأ يتشكل، ويتكسر، يتحول. يختزل نحو عدم وجوده أو نحو الخلاص الجسدي، حتى أخذ النّاتج الأخير لا يعني شيئاً، لفقده خاصية التّأثير. فضلا عن ذلك فان مؤشر البوصلة توجه وبشكل تدريجي نحو حيز الفعل الابتكاري في الخطاب الجمالي، إذ تم تفعيل حدود كفافية أخرى تخص أجساد أخرى وبلغة ثانية غير تلك التي كانت تتصف بالموضوعية على طول الخط، فلم يعد يحتفى بالحدود الخارجية على أنها محدد بصري فيزيقي، لما هو واقعي، وإنما هو مجرد مفتاح لتشكل صور إدراكية متنوعة، ولم يعد يعني انه حدودي (أنا) في المشابهة وحدود الجميع في تكويناتنا البصرية، الأمر الذي دعا لدراسة ظاهرة الجسد في النّحت الحديث من خلال تقصينا له عبر حدوده الكفافية.
بمعنى أن الباحث سيرتكز على ما تم التّوصل إليه في الفصلين السّابقين، ويقوم بدراسة بعض الاتجاهات الفنية (الحديثة) في الفن التّشكيلي، تبعا لانضمام المحورين (الموضوع واللّاموضوع)=(الجسد واللّاجسد)، مع (الواقع واللّاواقع)=(التّشبيه واللّاتشبية)، في عملية استقرائية نتقصى فيها الحدود الكفافية للجسد، وذلك لأنها عند حضورها تعني حضور الموضوع والواقع، وعند غيابها تعني العكس، وبهذا فإننا سنجد أن عملية الخلاص حتى من سلطة الوسائط قد وجدت بوادرها في نهايات الحداثة كما سيأتي. لانفتاح باب الوسائط على مصراعيه، إذ تم تفعيل خطاب التّقنية في المنجز الإبداعي.
د. أحمد جمعة البهادلي.