ملخص البحث:

ادى التسارع الواضح في انظمة الخطاب النقدي المعاصر وتحولاتها من الفعل السياقي الى الأفعال القرائية انطلاقاً من عمليات التحديث المستمرة في ادوات العملية النقدية وطرائق التحليل للمنجز الإبداعي، في تمثل النظام النقدي بصفته شكلاً من اشكال التعالق بين مجالات وحقول معرفية عدة مثل : الفلسفة، اللغة، الأدب، الفن …. الخ .

وهنا فقد ادى التداخل في انظمة النقد المعاصر الى تجلي كل منهج بوصفه حاملاً لمظاهر ومرجعيات مفاهيمية عدة، تعالقت معه وبثت له ادواتها التواصلية مع الواقعين الكوني والابداعي على حد سواء، ومن هذه المظاهر كان مفهوم المونادا الذي استمده الباحث من الفيلسوف ( ليبنتز )، واعتمد محاولة في الكشف عن مكونات النظام النقدي وكيفية اشتغال المنهج النقدي على المركب الفكري وبناءه الوحدة الوظيفية المتمثلة بالشكل الظاهري ( المادة ) انطلاقا من الوحدة الفكرية الممثلة لعملية الاشتغال على العلاقات الاساسية في المنجز الابداعي، وبالتالي، رسم خطوط اشتغال العناصر ضمن تفصلات الوعي وتحولاته العلائقية والتواصلية.

حيث يرى الباحث ضرورة تحديث الالخطاب النقدي عن طريق الرجوع التساؤلات الفلسفية والإستعانة بها للخروج بتساؤلات اخرى، تتميز بأنها اكثر شمولية وقد يكون بأستطاعتها الواصل مع المعطيات الفكرية لمرحلة ما بعد الحداثة.

فقد احتوى البحث على ثلاث فصول :

  1. الفصل الأول: الاطار المنهجي، وتضمن مشكلة البحث، اهمية البحث، اهداف البحث، وتحديد المصطلحات.
  2. االفصل الثاني: الاطار النظري الذي تضمن مبحثين: الاول التطور الجمالي لمفهومي المونادا. المبحث الثاني: المونادا في ضوء استراتيجية القراءة النقدية المعاصرة.
  3. الفصل الثالث: اجراءات البحث: حيث اختار البحث عينة نظرية في اعتماده المنهج التفكيكي بصفته عينة قصدية، الهدف من ذلك هو تحليل المنهج النقدي في ضوء منطلقات مفهوم المونادا.
  4. الفصل الرابع: نتائج البث ومصادره.

                                                                                                                                               

الفصل الأول : الإطار المنهجي:

  1. مشكلة البحث:

   يمثل البحث الفلسفي فعلاً شمولياً تتسع مساحته المعرفية لتنضوي داخلها متوالية من البنى الحسية والذهنية التي تشتمل على معظم العلوم الإنسانية والتطبيقية – إن لم تكن جميعها ــ ( الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الفن، … الخ ) .

فلكل علم اثاره التي يمكن ان تتوزع على شكل مسارات متعددة من التواصل والتوالد، نحو اكتساب صفات وخصائص تؤدي إلى التحول من الهوية الكلية إلى أخرى جزئية تتسع نحو استيعاب القراءات والمفهومات التي تؤسس عملية الانسلاخ والتحول فيما بعد إلى بنية كلية أخرى تمثل الهوية المتكاملة لكل علم من العلوم، الا ان كل ما يكونها لن يخرج عن كونها اما مادية او مثالية في مرجعها.

ومع تواصل الفهم والتداول لهذين المرجعين والعناصر الناتجة عنهما، فقد اختلفت  طرائق الفهم والتصور لكل حقل معرفي، حتى وصلت مرحلة التمثل في اشكال من النظائر المتجاورة التي عبرت عن صفات الحقل الذي تكونت فيه على الرغم من انها  بقيت حاملة – بنسبة او باخرى على بعض من صفاتها الفلسفية – ،فقد تجزأت المادة الى جريئات، ثم الى ذرات ومن ثم الى جسيمات صغيرة داخل محيط نواة الذرة، ولا سيما ما ظهر في الفيزياء المعاصرة، اما على مستوى المرجع الفلسفي – المثالي، فقد برز في القرن الثامن عشر طرح مغاير عند الفلسوف الفرنسي ( لايبنتنز ) قائلا ان للذرة نظير في الفكر المثالي اسماه بـ المونادا، مفترضاً ان المونادولوجيا هو علم ادراك الجوهر او علم ادراك الكليات في الكون.

وعلى مستوى الفعل الابداعي فان كل عمل ابداعي لا يمكن تحققه الا بتشكل بنيته من عناصر وعلاقات، ترجع في ماهيتها الى احد العنصرين، فاللون الكتلة، المم      ثل، الحوار، المنظر، الممثل، …. الخ ، هي عناصر ذرية، تتميز بقابلية الثبات النسبي في مقابل نظيراتها الممثلة للعنصر المونادي : الرؤية، المنهج،  الفكرة … الخ .

نقدياُ فان التحليل المعاصر للمنجز الإبداعي اعتمد مبادئ عدة انطلقت في ماهيتها من مفهوم المونادا، في تأسيس اصطلاحاتها الإجرائية مثل: (، والمضمون، والعلاقات،البنية الداخلية، الدال، الكتابة …. الخ).

من هنا فقد برزت مشكلة البحث في المتمثل في الحفر داخل جذور التطور المفاهيمي للفلسفة والكشف عن ابعاد التجاور والتداخل على مستوى الاشتغال التطبيقي للمفهوم الفلسفي المتمثل بمفهوم ( المونادا ) التي تجمع كل التحولات الكيفية داخل بؤرة غير مركزية، وحدد الباحث مشكلة في محاولة الاجابة عن التساؤل الآتي:

ما مدى الإفادة من المفهوم الفلسفي في تحديث وتعميق عملية التحليل للمنهج النقدي على مستويي النظرية والممارسة النقدية.

  1. أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث في انه يعنى برصد مساحات الاشتغال للمفهوم الفلسفي ومدى تأثيره ضمن فعل الممارسة العملية الإبداعية والنقدية المعاصرة، على حد سواء.

  1. هدف البحث:

يهدف البحث الى التعرف على خصائص التأثير الفلسفي في المنهج النقدي، وانعكاس ذلك على تحديث الأداة الإجرائية للعملية النقدية المعاصرة وتحولاتها  المفاهيمية.

حدود البحث: تنحصر حدود البحث كما هو موضح في ادناه:     

الحدود الموضوعية: تتمثل الحدود الموضوعية للبحث بتحليله الخطاب النقدي انطلاقا من ماهية الحضور الذاتي للوعي وتمثلاته الفلسفية في مفهوم المونادا، حيث يعتمد الباحث المنهج التفكيكي بصفته عينة اجرائية في تحليل الخطاب النقدي المعاصر.

  1. تحديد المصطلحات:

                                 أ‌-         مفهوم: منطقياً: يعني المفهوم مجموع الصفات او الخصائص الموضحة لمعنى كلي وعلى اساسه يتم التعريف والتصنيف ويمكن للمفهوم ان يطلق على شي او مجموعة اشياء تتمتع بنفس الصفات ( [1])          

                              ب‌-      المونادا:

    مفهوم فلسفي يرجع في جذوره الى اصول قديمة من حيث مظاهره المفاهيمية او استخدامه الاصطلاحي، فالمونادا ” لفظ يوناني الأصل، ويدل على الوحدة، وأطلقه أفلاطون على المثال. واستعمله بعض المفكرين المسيحيين للدلالة على الجواهر الروحية التي يتكون منها الكون، كما أطلقه لايبنتز على كل واحد من الجواهر البسيطة التي يتكون منها العالم ” ( [2] )

ويقول في تعريفه” الجوهر كائن قادر على الفعل وهو بسيط او مركب فالجوهر البسيط هو الذي لا اجزاء له، والجوهر المركب هو المجموع المؤلف من جواهر بسيطة او مونادات”( [3])

ووفقاً لمنطلقات البحث فإن المونادا هو كل ما ينتمى الى المركب غير المادي في الوجود على اختلاف مسمياتها التي تتوزع بين: الذهني، الفكري، الميتافيزيقي والمثالي … الخ. ومسرحياً فإنه ينظوي ضمن الأفعال العلائقية والإنعكاسية في النص المسرحي، بوصفه بنية داخلية مجردة داخل النص.

الفصل الثاني: المهاد المنهجي:

المبحث الأول: التطور الجمالي لمفهومي المونادا

  1. تأسيس المفهوم:

   يرجع الوجود المادي الى عوامل عدة تؤسسه وتشكل عناصره وعلاقاته على نحو دينامي يعتمد نوعاً خاصاً من الحركة الداخلية التي لا يمكن ملاحظتها أو التحكم فيها إلا في حدود ضيقة جداً مثل الانتقال من الليل الى النهار وبالعكس، إما عملية التحول في كيفيات الأشياء فإنها تقع خارج نطاق التحكم الخارجي، حيث إنها تتميز بحركة مستمرة في مكوناتها الداخلية، فكل مادة لابد ان تتكون من تراكيب داخلية تحتوي مكونات متناهية في الدقة وهي التي ترسم الشكل الخارجي في الجسم المادي.  حيث ” يتألف العالم بأكمله من كيانات نجد ان من المناسب بل من الدقيق تماماً ان ندعوها {دقائق} في حقول القوة،ويتم تنظيم هذه الدقائق في انساق وأنظمة وتتحدد حدود النظام أو النسق بعلاقاته السببية”.([4] ) .

  فيبرز مفهوم المونادا بوصفه مفهوماً جمالياً تتأكد وظيفته في بثه فضاءً تحاورياً بين ضرورات الانزياح التاريخي والعلة بما يقابلها على النحو المجسد المتمثل في البعد الوظيفي، بصفته نتيجة عن التفاعل بين المكونات المونادية ونظيرتها في المكونات المونادية ” فالمونادة هي الجوهر الفرد، الوحدة غير القابلة للاختزال وهي النظير الميتافيزيقي للذرة العلمية”.([5] ) .

  وانطلاقاً من الفرضيات العلمية المعاصرة التي تفترض ان العالم مجموعة من المجالات فان المونادة تعمل خارج حدود الثبات والمطلق المادي انطلاقاً من مرجعياتها المثالية، وهي في الوقت ذاته تنحو ان تكون متوالية من الانقسامات ” وهو ما تحول جمالياً في تحول الكون من مجموعة ذرات إلى مجموعة من المجالات وتحول مفهوم كل نشاطات الكون والوجود إلى عمليات ، إشارة الى البعد التوالدي في إنتاج المعنى ودلالاته على نحو قائم على ثوابت او ظلال للمراكز بدلاً من المراكز ذات الخطاب الأحادي ” ( [6]).

وبما ان العلم المعاصر قد اثبت ان الذرة تتصف ببنية مفتوحة ولولا ذلك لما سمحت بدخول جسيمات غريبة اليها، فهي تمتلك نواة ضخمة في مركزها ذات شحنة موجبة ولولا ذلك لما ارتدت الالكترونات مكونة التصادم الذري الناتج عن التفاعل الايجابي داخل مكونات الذرة الواحدة، وبالتالي فانه الطاقة التصادمية قادرة على توليد ذرة جديد ([7]) وعملية التصادم بين اجزاء الذرة يقود بشكل او بآخر الى توليد عناصر اخرى تمارس فعل في تكوين الذرات التي تتزاحم داخل متوالية من التوالدات والانشطارات التي تؤدي بالتالي الى ان ثمة عناصر اولية او كما اطلق عليها الباحث بـالـ ( ثوابت الابتدائية ) التي تتمثل في الذرة بالنواة وعناصرها، تدور حولها في المادة، وهو ما يمكن تطبيقه على مفهوم المونادا بوصفه اصغر مركب معنوي او ثيمي داخل فضاء النص الابداعي مهما كان شكله.

فعملية الصياغة المادية للشكل تعتمد ابعاداً ذهنية وفكرية تنطلق من استلهام افعال الخطاب الجمالي ومعطياته ( السوسيو – ثقافية )، من جهة، وما يؤكده كل معطى في بث الأبعاد العلائقية وانعكاساتها في بنية المنجز الإبداعي على النحوين: السياقي والضمني، من جهة اخرى.

ولذا فالمونادا مفهوم ادراكي مهامه : تتبع العملية الفكرية والعلائقية، في توالداتها وانشطاراتها التخيلية والواقعية، التي تنصهر ضمن افتراض قائم على تحويل الدلالات المركزية، الى  دوال افتراضية تتمركز بشكل مؤقت حول الوعي بالزمن اللحظوي والاختلاف عنه، عن طريق الانشطار الفكري والتصوري لحدث القراءة الابداعية، بوصف هذا الحدث هو وجود مونادي قائم بين شكلين من الثوابت الابتدائية هما: الوعي والمنجز.   

تتبع المفهوم

  وُجِدَ مفهوم المونادا في مضاهره الاولى عبر مراحل الفكر المتعددة والمتعاقبة بدأت بالحسي والفطري ، التي يتم بوساطتها ، إرجاع الأشياء إلى مسببات تحتمل نسبة من المنطق داخل تبرير نسبي ، إذ كانت الحياة في حقيقة الأمر تشوبها اعتقادات دينية كثيرة ذات مرجع ديني ارتبطت بالظواهر والتفكير البشري على سبيل المثال:  ( الطوطم ، والآلهة …. الخ ).

وفي مرحلة لاحقة تمثل فيها الفعل المونادي، داخل ضرب من النسيج الحكائي ، فـ ” يمكن أن نجد البذرة الأولى للفكرة الحديثة عن القانون الطبيعي او تصور الطبيعة سلسلة من الأحداث التي تتم حسب نظام ثابت لا يتغير وبدون تدخل من اية قوة مشخصة”([8] ) .

    ومثلت الاسطورة في التراث الإنساني فعلاً ( مونادياً – ضمنياً)* منزاحا ومتواصلاً مع أفعال الخطاب داخل المُرَكَّب الابداعي ، من جهة ، وشمولية احتواء وتنظيم عناصر تركيب الوعي وتشكلها في المسار الزمني، من جهة أخرى .

الا ان المظاهر المفاهيمية للمونادا قد بدأت بالتبلور منذ فجر اولى التاملات الفلسفية  وحتى نظريات الفكر المعاصر:

  1. (الماء، التراب، النار والهواء)  المتمثلة في طروحات الفلاسفة الأوائل الكون والطبيعة .

2.  التاكيد على البعد العقلي والروحي للمعرفة المتمثل في الفلسفة الاورفية* فكانت قواعد للتأمل وفحص الظواهر على نحو مونادي يتجه الى استخراج الطاقة العقلية وتأثيرها في محيط التعايش الخارجي للفرد.

  1. النزعة التجريدية الواضحة في ارجاع المادة الحسية الى اصولها العقلية المجردة، المتمثل في متوالية الآحاد عند فيثاغورس. قال أن الأعداد تحكم العالم وهذا الاقتناع قائم على واقعة بسيطة: فقد لاحظ أو(تعلم) أن هارمونيات القيثارة تعتمد على المكان الدقيق لنقر الأوتار وان المسافات الموسيقية التي تشنف الآذان  تأتي من النسبة بين عددين صحيحين ، على أية حال، انه لتقدير استقرائي مهيب أن يقرر هذه الواقعة أن كل شيء عدد”([9]).  
  2.  بمفهوم الابيرون ( انكسيمندر )  الذي ينطلق من الامتداد غير المتناهي والتفاعل بين أجزاء الكون.

5.  اللوغوس أو العقل مركز النظام ومحور عملية التنظيم الفني والفلسفي للوجود ، فحيث يكون العقل ، يوجد النظام، والعكس صحيح. ” إلى جدلية الصيرورة التي تقيم التوافق في أعماق المتباعدات عند هيراقليطس، إذ أكد على أن العقل الفنِّي يجب أن يحاكي النِسَب السرِّية بين الكثرة والواحد “([10]).

6.   مفهوم الحركة الداخلية: الذي تمثل في عند الفيلسوف الاغريقي(زينون الايلي) (90 –430 ق. م ) ” باستحالة الحركة في الامتداد اللامتناهي ،ويرى انتفاء تكوين الامتداد ،إلا انه لم يعتقد بانتفاء وجوده “([11]) مجالاتها الفضائية ضمن مجموعة الـ آنات غير المتناهية، يرافقها وعي الإدراك داخل الزمن.

  1. مفهوم المثال وخلود الفكرة: المتمثلة في فلسفة افلاطون.

8.  الانسان بوصفه قيمة عليا: المفهوم الذي يطرحه أرسطو طاليس حين يؤكد على تصوير الانسان كما يجب ان يكون لا كما هو عليه.

9.  الفعل الروحي للمادة: مفهوم المونادا بصفتها المادة الروحية المحركة للكون عند لايبنتز1646 – 1716 ” حيث ربط مفهوم الجمال بتصورات مشتقة من مذهبه في الذرات الروحية وهو يرى ان نظرتنا الى الجمال متفرعة من تسليمنا بوجود انسجام ازلي بين المونادات الروحية المميزة”([12] ).

  1. صيرورة الفكر: هيجل (1770 – 1831) .” فقد تصور هيجل الحقيقة الوجودية على انها نمو جدلي للعقل المطلق الذي يصل دائماً إلى تركيبات جديدة ابتداءً من مفهومي القضية ونقيض القضية” ([13])
  2. ظاهراتية الوعي انطلاقاً من ادراكه الماهيات وعلاقة الموجودات بالوجود، وهو ما ظهر في طروحات الفلسفة الظاهراتية وروادها ادموند هوسرل ( 1859 – 1938 )، ومارتن هايدجر(1899-1976).

المبحث الثاني:

المونادا في ضوء استراتيجية القراءة النقدية المعاصرة

مع تطور الوعي النقدي المعاصر وتبلور المناهج النقدية بطابعها التاويلي، فقد لعب مفهوم المونادا دوراً اشتغالياً في فضاءات القراءة النقدية وتاسيس آليات الوعي النقدي المعاصر لفكر عصر ما بعد الحداثة، بالشكل الذي يخلخل الثوابت التقليدية المتوارثة عن المراحلة الفكرية السابقة.

فقد اتجه البحث النقدي المعاصر في تحليله الخطاب الإبداعي ولاسيما الفني ، نحو إلغاء المراكز العلائقية بين المبدع مع محيطه ومنجزه، من جهة، وبين المنجز والعمليات التي تحصل عليه في القراءة واستراتيجياتها من جهة اخرى، حيث بدأ الوعي في الخوض داخل مساحات التمركز الإفتراضي – الوهمي – الذي يغادر شتى انواع واشكال التنميط للمنجز الإبداعي والنقدي على حد سواء، بالشكل الذي يتم عن طريقه استلهام عمليات الحضور الفاعل للوعي وتحولاته التي توازي افعال اللسان  بصفته فضاءا لغوياً  تتحاور وتتفاعل فيه المفاهيم مع ادواتها الكلامية فــــ” اللغة جزء محدد من اللسان مع انه جزء جوهري – لاشك – اللغة نتاج اجتماعي لملكة اللسان، ومجموعة من التقاليد الضرورية التي يتبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة”([14]).

وهنا فقد اتجهت المناهج النقدية في مرحلة ما بعد الحداثة توجهاً مونادياً مفاده البحث عن مصادر الطاقة الروحية والفكرية التي يمكنها ان تحل محل المادة المؤسسة لعناصر الخطاب الابداعي، او دفعها نحو التفاعل الايجابي الناتج عن اتساع مساحة اشتغالها، وقابليتها في الانصهار داخل مختلف التشكلات المعنوية والفكرية المتمثلة في ( مونادا النص ) القرائي، في مقابل شكله الآخر الممثل للوظيفة السياقية وما يمكن تسميته انطلاقاً من توجهات البحث بـــ ( ذرية نص المؤلف ).

وفي حقل النقد الحديث فقد بدأت عمليات التحليل للمنجز الإبداعي يتجه نحو البحث في ما يمكن ان يستخرج من وراء البنية الظاهرية للشكل الفني الخارجي بما يعبر سطور السياق النصي الى مساحات الوظيفة والعلاقات المشكلة للعناصر البنائية، المتمثلة في المنهج البنيوي، فيما اتجه اخروى الى افتراض النص دالا شمولياً يحوي داخله مجموعة من الحقول الدلالية التي ترتكز على ترتيب الدوال بحسب اشتغالها العلامي، وهو ما حدث تحت اطار المنهج السيميائي.

ولكن الخطوة الأكثر تأثيراً – كما يرى الباحث – ما جاء به المنهج التفكيكي، تمثلت في عملية تفعيل الاشتغال على الثوابت الأولية في تشكلات مونادا النص، عن طريق تحطيم ذرية السياق كي تتحول العلاقات نحو الهيمنة على حساب العناصر، حيث يتمثل الهدف من ذلك هو البحث عن مصادر الطاقة اللازمة، التي من شأنها ان تحدث اكبر قدر ممكن من الإنشطارات للمعنى داخل فضاء النص.

 فالتفكيكية قد تبنت طروحات نظرية واجرائية، كانت تجلياً واضحاً لحالة ما بعد الحداثة في مونادا خطابها الذي يقوم على جدليات: الغياب والحضور، او التجاور والإنقطاع، بين الذات والموضوع، انطلاقاً من ركيزة اساسية اعتمدت مفهوم الإختلاف جوهراً لفلسفتها، ذلك ان هذا المفهوم يرتكز على تمثلات الذات المتعالية بوعيها، يازاء المنجز القرائي وتحولات المعنى داخل فضاءات متجاورة من القراءات المفاهيمية المتعددة انطلاقا من اللغة المجسدة بصفتها ابجدية الفعل اللساني الذي يقف الوعي عند عتبة التحول فيه المتمثل بإمساك ذرات الروح ( المونادات ) للفكر القرائي في، طريق ادراك روح العصر ضمن زحمة من الخطابات والتصورات التي تسعى عن طريق افعال اللغة الى بلورة ذرية المعنى داخل استراتيجية البحث في المراكز وتهشيمها الى فرضيات مهيئة للبحث والقراءة المتحولة والمختلفة بموجب معطيات الوعي وحركية موناداته الكتابية .

وفي هذا المنحى فقد اضطلع الفرنسي (جاك دريدا ) الى البحث في آليات القراءة المعاصرة، واستراتيجيات الاختلاف القائم على تفتيت المراكز ومحاولة بيث روح الإشتغال داخل حركية التفرعات الجزيئية او الانبثاقات التي تتميز بتبعيتها الى المركز وعدم قدرتها على توليد المعنى والتحول من حالة ال المراكز والتي عرفت في مراحل سابقة بالهوامش.

داخل فضاء الكتابة بمفهوم ( دريدا ) والذي يستعيض عنه الباحث بمفهوم اللسان لما يتمتع به هذا المفهوم باتساع مستوياته وافتراضه معطيات عدة بحسب كل حقل او مجال ابداعي،  المونادا بالوعي القرائي وما يحيطه من عناصر وعوامل تهيئه الى الولوج نحو عمق التجربة الذاتية المتمثلة بالاختلاف والتفكيك.

ولذا فان البحث في تحليل الاثار الادبية والاساطير واعتماد الخيال والحلم والتصور الجمالي للسلسلة التطورية لعالم الابداع بكل ما يولد عنه من طرائق جديدة ومغايرة في البحث والمعالجة والتاويل لخطاب الوجود، ان هي الا ادواة وركائز البحث في مونادا التفكيك على مستوى: الادب والفن بشكل عام.

ولعل ابرز المؤشرات الاجرائية التي خرج فيها الباحث انطلاقا من مفهوم المونادا في تحليل الخطاب النقدي هي:

تقصي افعال التفكيك ودراسته استراتيجياتها في البحث داخل هوامش التجاور ومراكز الانقطاع الادائية والإجرائية، عن طريق مبدأي: الاختلاف والكتابة .   اي البحث في كيفية الغاء المراكز واحلال مراكز فرعية مكانها. وهنا يعتمد التحليل مجموعة من المونادات هي:

‌أ)       مونادا الاختلاف

‌ب)  مونادا التمركز الإفتراضي.

‌ج)    مونادا الكتابة.

‌د)      مونادا النص وعلاقاته وهو كما وصفه الباحث بـ الثوابت الاولية.

الفصل الثالث

اجراءات البحث

اولاً: فرضية البحث: يفترض البحث ان مفهوم المونادا هو مفهوم فكري – تحليلي، يعمل ضمن مساحة الاشتغال النقدي في دراسة منظومة العلاقات الداخلية للمنهج ودورها في تحقيق العناصر الاولية للمنجز والمنهج النقدي على حدٍ سواء.

عينة البحث: يمثل المنهج التفكيكي عينة البحث التي اختارها الباحث بشكل قصدي، الهدف منه اختبار عملية اشتغال المنهج النقدي انطلاقاً من الفعل المونادي المتمثل بالعلاقة المتبادلة بين الوعي والمعنى داخل فضاء التحليل النقدي. 

ثالثاً: اداة التحليل:

وهنا يعتمد التحليل مجموعة من المونادات هي:

‌أ)       مونادا الاختلاف

‌ب)  مونادا التمركز الإفتراضي.

‌ج)    مونادا الكتابة.

‌د)      مونادا النص اي الثوابت الاولية للتشكل.

رابعا: تحليل العينة:

 على مستوى التحليل لمونادا الخطاب النقدي فان الدخول الى فضاء تجربة التحليل التفكيكي بعناصرها ذات المرجعيات والكيفيات المختلفة التي تأتلف ضمن مراكز افتراضية تقوم على اساس فعل التجاور والحضور ضمن زمن آني يقوم على انفتاح التحاور وقراءة لحظوية  داخل محيط القارئ ( المتلقي).

اذ تتميز مونادا التلقي في التفكيكية بانها خاضعة الى ذات المكون الطاقوي الذي يحيط به زمن دائري لا يمكن تحجيمه او رصد توقفاته، فهو زمن الجسيمات الفكرية المتناهية في الدقة مثل التوارد الفكري واستذكار الحلم والعيش ضمن افتراضية حلم اليقضة ….

   هكذا تبدأ مونادا الاختلاف بصفتها صيرورة للتحقق الاشتغالي ضمن فعلا مستمرا من متوالية اغتراب الوعي الى المنجز وفيه ومنه، فلا يمكن ان يحدث الاختلاف من غير وجود الاغتراب بشكل الواعي انه اغتراب الحضور، في زمن منقطع من المونادات المنشطرة بعضها عن البعض الآخر، حيث تتشكل العلاقات بين لحظة الآن ولحظة الماضٍ المنصرمة، وهنا فان التوالد التفكيكي لايجد سبيلاً الا البحث المستمر في مونادا التشكل في العناصر عن طريق فعل الاختلاف بين شكلين من الفعل المونادي هما مونادا الغياب ومونادا الحضور.

ولعل كل ما يجري في مونادا الاختلاف والتوالدات الزمنية انما سببه البحث عن الفعل المونادي للمركزية العلائقية التي لم تكن الا افتراض تحقق ضمن لحظة من لحظات الحضور، وخضعت مثل غير من الحظات الى تصادمات اليكترونية في مونادا القراءة التي غادرت محيطها، نحو الغياب واحلال مركز اخر، اذ ان كل مركز لا بد ان يخضع الى ذات الطاقة التصادمية ليحل محله مركز اخر، افتراض اني داخل الوعي، ولذا فان مونادا التمركز تعمل على تشظية الثابت وتحوله الى متحول دائم التوليد لمراكز اخر يجتمع فيها الافتراض والحقيقة، ضمن زمن واحد هو زمن مونادا الانشطار.

وحيث تكون هذه الانشطارات فان مونادا القراءة انما هي حضور دائم لا يجد في تحوله الا تجاورات مستمرة مع كل لحظة، انشطار للعلاقات غير المركزية، فالتفكيك عمل مونادي – استلهامي يقوم باستحضار كل ما يدور ضمن فلك الخطاب السوسيو ثقافي او كما يطلق عليها جاك دريدا بـ ( الكتابة ) فالكتابة شكل من اشكل الطاقة المحركة للانشطار المونادي داخل فضاء المعنى النص لدى القارئ، وهي في ذات الوقت انفتاح على مجمل المعطيات الداخل في عملية التصادم العلائقي داخل محيط المونادا الواحد.

وبالتالي فان النص في هذه المرحلة هو خضوع وتحول في صفاته التي يفقدها، ليكتسب صفاتاً جديدة، تتحول فيه عناصره من وجودها البنائي، الى افتراض اولي، تتميز بانها ثوابت يتم الإستعانة بها كي تتحرك المونادات لتشكل عملية التعالق التفكيكي، ضمن عدة فضاءات اشتغالية تتأكد في عمليات التحول نحو الغياب الإيجابي لما سمي في وقت سابق بالعنصر النصي حين كان ثابتاً بشكل كلي.

فالاشتغال المونادي في العنصر النصي انما هو تحول في الماهيات فتكون العناصر مثل الاعداد الأولية في علم الرياضيات ( صفر – 9 ) وجود اولي تتوالد عنها ما هو لا نهاية له من العناصر والعلاقات ضمن كلية المعنى وشموليته

نتائج البحث:

  1. المونادا عملية اجرائية يتم فيها الدخول الى صلب العملية التفكيكية وتحديث عناصرها وآليات اشتغالها، بالشكل الذي يتم فيه الغالء وحدة المعنى ووحدة النص ووحدة المركز والكاتب …. الخ ويستعاظ عنه بكلية المعنى النصي وشموليته، وكذا هو الحال مع المركز والقارئ….الخ.
  2. الاختلاف: المونادا في الاختلاف هي صيرورة الحضور المستمر والمتوالد عن تصادم الجزيئات المعنى والوحدات الدقيقة للمعنى، مع بعضها البعض من جهة، ومع وعي القراءة المستمر، من جهة اخرى.
  3. النص: كل فعل مونادي يدخل فضاء النص فانه يحوله من حالة السكون الى الحركة ومن الثبات الى التحول، حتى تنهار بنيته عن طريق انهيار عناصرها وتحولها الى شئ افتراضي يمكن ان نطلق عليها الثوابت الأولية.  


[1] . ينظر: ابراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983 ،ص189

[2] . ابراهيم مدكور، مصدر سابق ،ص197.

[3] . جوتفريد ليبنتز، المونادولوجيا، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر 1978، ص 101.

[4] . جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع ( الفلسفة في العالم الواقعي) ترجمة: سعيد الغانمي، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2006،ص66

[5] . هكتور هوتون ، متعة الفلسفة ، ترجمة: يعقوب يوسف أبونا، بغداد: منشورات بيت الحكمة، 2002،ص297 وينظر أيضا المصدر نفسه من ص76- ص81.

[6] . حارث، حمزة الخفاجي، نظم الخطاب في عروض المسرح العراقي على وفق الإتجاهات النقدية الديثة، اطروحة دكتوراه غيرة منشورة، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، 2010، ص 35.

[7] . صلاح محمد على، قاموس الفيزياء، ج 1 بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة،2005، ص 170.

[8] . سير جيمس فريزر ، الغصن الذهبي ( دراسة في السحر والدين ) ج1، ترجمة: احمد ابو زيد، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971، ص101.

[9] . رولان اومنيس، فلسفة الكوانتم  (فهم العلم المعاصر وتأويله)، ترجمة: احمد فؤاد الاهواني ، الكويت : سلسلة عالم المعرفة ، 2008، ص35.                                                                            

[10] . وهيب كيروز، مصدر سابق.

[11] . جعفر آل يا سين ، فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط (بغداد : مكتبة الفكر العربي) ط 3 ، 1985 ص54

[12] .الجمال ونشأة الفنون الجميلة،

[13] . . إ . م . بوشنسكي ، مصدر سابق ، ص 29.

[14] . فرديناد دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، بغداد: دار المأمون للترجمة، 1985، ص27.

Comments are disabled.