الحل الإخراجي واستراتيجية الحداثة الفلمية

بسبب سعة الاشتغال الكبيرة، في عملية تطويع جميع اشكال الفنون الاخرى، في فضاءه، تمتع الفن السينمائي بحيوية ارتباطه الحميمي مع جميع مستويات التلقي، وكذلك الطروحات الفكرية، سواء من ناقدين مختصين في الفن السينمائي او مجرد مثقفين ومتذوقين،  هذه الفاعل الابداعية بين المنجز الابداعي والمفاهيم  النقدية، اوجد تتداخل في بعض المفاهيم الاساسية في هذا الفن، وربما ان مصطلح الحل الاخراجي احد المصطلحات الاشكالية، التي تعترض طريق الباحثين، والدارسين، وهم يخطون خطواتهم الأولى في هذا التخصص، لأجل ذلك سيتم استيضاح هذا المصطلح القار في تاريخ السينما.

ينهض الفن السينمائي قطعا على مجموعة من القوانين والقواعد، التي تعتمد اشتغال عناصر اللغة السينمائية، في تراكيب حيوية فاعلة، تمتزج وتتماهى مع بعضها حتى يصبح من العسير أحيانا تميز اشتغال عنصر من عنصر أخر بالنسبة للمتلقي الاعتيادي، لان تضافر عمل العناصر اللغوية السينمائية، هو من يشكل اللقطة بجميع تمفصلاتها، وبالطبع يخضع هذا الاشتغال الفني لمشيئة المخرج الذي يمتلك الرؤية الأساس في تشكيل المعالجة الصورية للمادة الدراماتكية، فتنهض السينماتوغرافية أي مجموعة الصور المتحركة، بوصفها وسيلة متفردة في عرض وقص الأحداث الفلمية، وهكذا نرى ان هناك معالجات إخراجية تعتمد المباشرة في صياغة الأحداث وعملية تمثلها ماديا داخل الإطار، وفي مكان أخر نعثر على معالجات أخراجية تعتمد البلاغة الصورية في التعبير عن الأحداث الفلمية، من خلال أبراز الاستعارة او التورية وكذلك الرمز، في بنية شفرية تتنواب الصورة والمتلقي بالكشف عنها، وهذا التباين في المعالجات الإخراجية للموضوع، هو ما يثير هواجسنا للكشف عن الأسباب التي دعت المخرج الى عرض الزمن بكل تفاصيله في بنية الحدث، او تكثيف وإلغاء الزمن حتى تصبح المادة المعروضة، أشبه بومضة لا قيمة زمنية واضحة لها، او اعتماد الايقنة في عرض الأحداث، بمستوى مباشر مع عمليات الترميز، وهنا يظهر لنا مصطلح الحل الإخراجي، بصورة متوازية مع مصطلح الرؤية الإخراجية، ولأجل التفريق بين هذا المصطلحين المهمين، نقول ابتداءا، أن مصطلح الرؤية الإخراجية ينهض بأعباء رسم الملامح الأساسية لهيمنة فكرة ما، على جميع تمفصلات الفيلم، وان الحلول الاخراجية وجه من اوجه الرؤية الاخراجية، اذ يرتبط مفهوم الرؤية الاخراجية بقدرات المخرج الفكرية، شخصيته وطريقته الخاصة في رؤية الحياة، وما يمتلكه من مرجعيات أيدلوجية او ثقافية، كل هذه تشكل اللبنة الاساس لرؤيته تلك، وان الرؤية الاخراجية المهيمنة تعتمد على تسيد احد العناصر اللغوية، بوصفه الوسيلة الأنسب للتعبير عن هذه الفكرة، فمرة تكون الة التصوير من خلال اعتماد حجم معين او حركة معينة، او زاوية معينة، هي المهيمنة على الشكل الفلمي ككل، وقد يكون عنصر المونتاج بما يملكه من قدرات بارعة في بناء الفكرة، وفي مره اخرى نرى ان توظيف مسحة لونية، لتشكل خلفية لأغلب مشاهد الفيلم، ويمنح اللون السائد، دلالة فكرية ما ترتبط بطبيعة الموضوع الفلمي، ويجب التأكيد هنا، ان فهم الرؤية الاخراجية لمخرج ما تكشف لنا عن السمة الأسلوبية، التي ينتهجها، في عملية توظيفه لعناصر اللغة السينمائية، ففي فيلم (الماتريكس)، حينما هيمن اللون الأزرق ألسمائي على اغلب مشاهد الفيلم، للدلالة ضبابية ومرض البيئة التي يعيشها الإنسان، وهو يناضل للتخلص من سلطة الآلة، فترتبط الرؤية الإخراجية بمجمل العمل الفلمي، وهي تقترب من طبيعة الأسلوب، او البصمة التي تميز مخرج عن أخر، وعلى وفق الدراسات الأسلوبية، نرى ان الرؤية الإخراجية، تكاد تكون هي فرس الرهان في التعرف على هوية المخرج الأسلوبية، فلابد ان تنهض الرؤية الاخراجية على فلسفة المخرج الكونية للأحداث الفلمية، فتتجاوز الحدود الداخلية للإطار، لتحيل لما هو خارج فضاءه بسعة لا متناهية، ان الرؤية الإخراجية لهتشكوك، تشكل سمة أسلوبية واضحة وجلية، من خلال اعتماد التقطيع وتفكيك المشهد لعدد من اللقطات ومن ثم أعادة ربط اللقطات بما يؤمن طريقة سرد تحمل رؤية المخرج، فاعتماد اللقطة القريبة بشكل مباشر بعد اللقطة العامة، مع مؤثر صوتي، سيؤدي قطعا الى علمية استنفار كل حواس المتلقي، وترقبه لما سيحدث، في حين نرى ان الرؤية الإخراجية للارس فون ترير، تتجلى في التعامل القلق مع تمفصلات الموضوع، فلا شيء ثابت او حقيقي، وعملية اهتزاز الكاميرا وهي تتابع الشخصيات، بل تطارد أفعالهم وأقوالهم، هي السمة الأساس في أبراز رؤيته الإخراجية، فنرى في أفلام (ضد المسيح او راقصة في الظلام)، خير دليل على اعتماده طريقة الهاند كاميرا، والحركة المهتزة القلقة التي تكشف عن قلق وضياع شخصياته، فتحقق هذه السمة الأسلوبية كجزء فاعل من الرؤية الإخراجية له.

اما مفهوم الحل الإخراجي، فهو اشتغال يعمل ضمن فضاء الرؤية الإخراجية ليشكل سمة أخرى ترافق السمة الأسلوبية للمخرج، ويمكن تعريف الحل الاخراجي على انه قدرة المخرج على ايجاد حلول صورية بصورة مباشرة او غير مباشرة للموضوع المصور، شريطة ان يحافظ هذا الحل الاخراجي على مستوى البناء الصوري للفيلم ككل، ضمن فضاء رؤيته، وبعبارة اخرى، هي القدرة المكتسبة للمخرج اعتمادا على رؤيته الأساس في التعامل مع قصة الفيلم، فتتم معالجة بعض الاحداث بطرق غير مباشرة، أي لا تعتمد عرض الحدث بنفس المستوى الصوري للأحداث السابقة او اللاحقة، وخصوصية الحل الاخراجي، ينهض على مستويين اثنين، المستوى الاول يرتبط بالظروف الخارجية التي تحيط عملية انتاج الفيلم، مثلا انتاجية، ايديولوجية، دينية، اخلاقية، سياسية، وكل هذه المعرقلات تتطلب من المخرج القدرة على استيعابها، وايجاد حلول صورية للاحداث، لا تتعارض بشكل مباشر مع طبيعة هذه الظروف، وبالوقت نفسه، لا تضعف البناء الصوري للفيلم ككل، اما المستوى الثاني، فيرتبط بقدرة صانع العمل على توظيف البنية البلاغية كوسيلة لتجسيد الافكار صوريا، فيتم التعبير عن الاحداث بطريقة مرمزة او بنية استعارية، او اعتماد تكثيف زمنية ما.

يتنوع مفهوم الحل الاخراجي اجرائيا، بحسب طبيعة الفكرة المعالجة، سيما وان لكل حدث حلولا مرئية واخرى غير مرئية، تتظافر في نجاحها تقنية اللغة السينمائية وهي تكشف عن الفكرة المراد طرحها ضمن الحل الإخراجي، فتكون صورة أنعكاسية لأدراك الحدث المثار، فالحل الاخراجي لا يعتمد الحيادية في بناء الصورة قدر ارتباطه بجملة الايدلوجيات التي تحرك المخرج، ففي فلم (ممر الى الهند)، نرى ان المخرج (ديفيد لين)، حينما حاول ايجاد حل اخراجي لطرح قضية اغتصاب الفتاة الانكليزية من قبل دكتور عزيز (الرجل الهندي)، تعمد الانتقال من داخل الكهف الذي كان غارقا في الظلام الى بركة ماء صغيرة بجانبه، حيث كان الماء يفور ويتقلب بقوة، وكأنه يغلي، وهو دلالة على ان الحل الاخراجي لـ(لين) اتجاه صوب تأكيد واقعة الاغتصاب لا اكثر من ذلك، وقد يتمثل الحل الاخراجي في قدرة المخرج على بناء صورة تتداخل بنها مستويات الزمنية والمكاني، فيتم اختزال الكثير من الازمنة، او إزاحة الكثير من الاماكن، ففي فلم (اوديسا الفضاء 2001)، للمخرج (ستانلي كوبرنيك)، اعتمد المخرج الحل الاخراجي الأمثل في تحقق التكثيف الزمني، حيث أوجز عمر البشرية منذ وجودها على الأرض حتى زمن الفلم،  عبر عرضه في بداية فلمه لإنسان بدائي وهو يرمي عظمة كبيرة للدفاع عن نفسه، لينقلنا المخرج بحركة الكاميرا وبحجم اللقطة وعبر الانتقال المونتاجي، نحو الفضاء الخارجي لتتحول العظمة الى مركبة فضائية عملاقة، فمن خلال توظيف عنصر المونتاجي، لآلاف السنين، وسواء أكان المونتاج هو العنصر المهيمن في الحل الإخراجي، او غيره يبقى البناء الكلي لعناصر اللغة السينمائية هي الأساس الذي تنطلق منه المعالجات الصورية.

يجب ان تكشف المعالجة الصورية للحل الإخراجي عن قوة في الإيحاء وبلاغة في التعبير، وقدرة على تجسيد الأفكار المراد طرحها مرئيا، بحيث لا يؤدي ذلك الى وجود أي لبس في ذهن المتلقي بل مرتبط بمفهوم التداولية السينمائية، والتحقق من امتلاك المتلقي للسياق الصوري الذي تعمل مكونات الصورة.

غالبا ما تعترض الرؤية الاخراجية عقبات، تحول دون تنفيذ ما يريده مرئيا، وتجاوز هذه العقبات هي الحافز الاساس، في بناء الحل الاخراجي، فيتم الاعتماد على الصوت، او المؤثر الصوري، او البناء التشكيلي للقطة، وتوظيف التضاد والتوازن او عدم التوازن، من خلال توزيع الكتل في فضاء اللقطة، فضلا عن تقنيات الة التصوير، كل هذه العناصر تتداخل في مخيلة المخرج وهو يحاول تجاوز تلك العقبات، ففي فلم (الجدار )، اخراج (الن باركر)، وبعد ان عجزت قدرات الصورة الواقعية من تجسيد ما يحاول التعبير عنه مرئيا، لاسيما في المشهد الذي تتحول فيه  الحمامة البيضاء الى غراب أسود ثم نسر ثم طائرة مقاتلة تقصف المدن، هذا البناء الفكري للصورة المراد تجسيدها لابد ان تنهض على حل اخراجي لا يقل عنها عمق وتأثير، وهو ما دفع المخرج (الن باركر)، الى توظيف الرسوم المتحركة، في التعبير عن هذه الصور الغرائبية، المنزاحة عن العالم الواقعي، فكانت الرسوم المتحركة، حل اخراجي متميز للكثير من الافكار والمشاهد التي ارادها باركر للكشف عن رؤيته الاخراجية للفلم ككل.

ان مستوى الصورة في الحل الاخراجي لابد ان يرتبط بالجانب الفلسفي او للفكرة التي يريد صانع العمل ابرازها، وهذا ما يتطلب ابتداءا وضع مجموعة معالجات فكرية، لابد ان تحقق بنية تماسية المنجز المرئي نتيجة الحل الإخراجي وبين ما يريد صانع العمل بثه فلسفيا،أي استعراض الذاتي من خلال الموضوعي، وإقحام الموضوعي في بنية الذاتي طالما ان الفن السينمائي هو الفن الأقدر على بناء عوالمه وقوانينه التي تسيطر على كل شيء في العالم الديجيزي.

يرتبط الحل الاخراجي بمديات توظيف جميع الصور الذهنية او الافكار التي يحملها صانع العمل، فعلى سبيل المثال يمكن الافادة من المدرسة الجشطالتية في التعامل مع الكل والاجزاء، كبناء مرئي، يمثل حل اخرجي يحيل المتلقي من الكل الى الاجزاء ومن الأجزاء الى الكل، وتعميق هذا المفهوم عن طريق التوظيف المبدع للايحاء والايهام، فكل جزء، يمكن ان يحيلنا الى معلومات هائلة تفوق من حيث الاهمية، ما حمله الجزء بشكل مباشر،   فلابد من توافر قوة الايحاء، انطلاقا من حجوم اللقطات، المسافة الفاصلة بين الة التصوير والجسم المصور، وحتى المسافة الفاصلة بين الشخصيات المشاركة في الاحداث، ففي فيلم (نادي القطن) للمخرج (كوبولا)، حاول صانع العمل عرض حدثين يجريان بشكل متزامن، احدهما امام المتلقي والاخر، يحاول الإخبار به عن طريق حل من الحلول الإخراجية، ففي الصالة الرقص كان (ريتشارد جير)، اما في الطابق الاعلى فكان هناك خلاف بين أفراد المافيا، لم نكن نعلم مداه، ووسط الصالة كان الفتاة الراقصة، بيضاء اللون ذات وجه ملاك، وفي لقطة قريبة تسقط من اعلى السقف قطرة دم على وجه الفتاة ذات اللون الأبيض، وهو ما اخبرنا ان أحداث ما حدثت، وان هذا الوجه الملائكي يخفي خلفه الكثير من الأسرار، من خلال عمليات التضاد اللوني بين بياض الوجه واللون الأحمر لقطرة الدم، وهو ما كشف عن حقيقة الاشخاص، ودموية المكان.

ان التوظيف المجازي، ضمن البنية المنزاحة لعناصر اللغة السينمائية، تكشف للمتلقي عن القدرة الهائلة للصورة المرئية في بث المعلومات، والكشف عن مستويات التأويل، واخباره حقائق اكثر ايلاما من رؤيتها متجسدة، وذلك بفعل بلاغة الصورة والحل الاخراجي المتقن.

كذلك من الممكن ان يتبين لنا موضوعة ومفهوم (الحل الاخراجي) ، بواسطة توظيف اللغة الشعرية، والالقاء المرافق للصورة، وهناك ايضا، طبيعة توظيف المؤثرات الصورية او الموسيقى، وغيرها من العناصر التي لا يسع المكان للبحث فيها.

اهم وظائف الحل الاخراجي في الفلم السينمائي

  1. أبراز العمق الفلسفي للرؤية الاخراجية لصانع العمل.

2. تركيز أنتباه المشاهد على الثيمة الداخلية للعمل الفيلمي، من خلال الايقنة او الترميز، في التعامل مع مفردات عناصر اللغة السينمائية، مكان زمن، حدث.

3. تقديم الحلول المرئية التي تضمن جلب الصور الذهنية، على مستوى المكان او الحدث او الشخصية، وهو ما يعني تنشيط مستوى التلقي لتحقيق المشاركة الفعلية في رسم فضاء الفلم ككل.

  1. طرح الافكار مرئيا عبر وسائل فكرية مبتكرة، سينماتوغرافيا، داخل بنية النص نفسه.

5. الهروب من الرتابة، اي البحث عن اشكال جديدة للمعالجات الاخراجية بالنسبة للصانع ضمن فضاء الرؤية الاخراجية المهيمنة .

6. التناول غير التقليدي للاحداث، لان طبيعة المعالجة السينمائية تعني فيما تعنيه ايجاد معادل صوري لافكار او افعال لابد ان تحيل المتلقي لمستويات جديدة من انتاج المعنى.

  1. أختزال ذكر موضوعة ما ، عبر التكثيف الزمني لها .

Comments are disabled.