مسلة النسور (السومرية)

                       يعرض متحف اللوفر في باريس ، وبكل فخر واحدة من اهم روائع النحت السومري ، منذ ان اكتشفها
                   الاثاري الفرنسي (دي- سارزك) في اوائل القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، ونعني بها مسلة النسور او العقبان ،
                        وهي عبارة عن (نصب) تذكاري، يخلد انتصار جيش مدينة (لكش) السومرية على مدينة (اوما) القريبة منها،
                    وقد اقامها الحاكم السومري ( أأنا توم) على الحدود بين المدينتين ، بعد ان ضم منطقة (كَو- ادنا) المتنازع عليها،
                                                                          الى مدينته (لكش).  

والمسلة عبارة عن كتلة كبيرة من الحجر الرملي ، ارتفاعها 1.88م وعرضها 1.3م وسمكها احد عشر سنتمتراً.
 وهي مدورة من الاعلى، لغرض تحقيق اقصى امتداد طولي في الفضاء لتمثيل المشهد. وجوانب المسلة الاربعة كلها
مغطاة بالمنحوتات الناتئة ، وقد اعيد بناء اجزاء منها من قطع عديدة. ومع ذلك ان الجزء السليم منها يعادل تقريباً
نصف مساحة المشهد الكلية، ورغم ذلك ، يمكن قراءة الصفحات الاساسية في سرد المعركة الحربية، بسبب دخول الكتابة ،
بوصفها عنصراً واصفاً  لهذه الوقائع في بنية النص. فهي تشرك الدين والتاريخ معاً في توثيق عمل حربي،
فالمشهد يضم (خلاصة) مجرى المعركة من بدايتها حتى نهايتها، وابتداءً من الاعلى الى الاسفل . وفي الوقت نفسه ،
 يقدم جانبا المسلة توضيحات تكميلية للوقائع . فعلى احد الوجهين تظهر الاعمال البطولية للمحاربين،
وعلى الوجه الاخر، يُرى التدخل الحاسم للالهة.

 

ووفقاً للنص المكتوب الذي يصاحب المشاهد المصورة، يمكن القول إن الفنان، قسم الوجه الامامي للمسلة،
 الى اربعة حقول افقية منتظمة ومتساوية المساحة، كي يحقق هندسة لمعنى النص. حيث يتقدم رجال (لكش) في الحقل الاول
من الاعلى، في تشكيلة متماسكة، وهم يحملون تروساً جلدية ، وقد اوشكوا الهجوم برماحهم، ويتقدمهم (الحاكم)
وقد غطى جسمه بجلدٍ واق سميك محزز بشكل مائل. ومع ذلك، فان المعركة قد كسبت في صفحتها الاساسية،
ذلك ان جند (أ أناتوم) يسيرون فوق جثث الاعداء المتساقطين ، حيث بدات طيور القنص (النسور)
تنهش اجسادهم 
ومن هنا كانت تسمية المسلة.

وفي تتبعنا للسرد القصصي لرواية الحدث، يبدو ان معركة (المشاة) قد حُسمت، لتعقبها معركة (الدروع).
ففي الحقل الثاني، يسير رجال (لكش) وقد تعرت صدورهم، وهم يحملون رماحهم على اكتافهم.
هنا ايضا يتولى الملك القيادة، لكنه (الان) يركب عربته الحربية. واذ كان يرتدي ملابسه السابقة ، فانه يُلوح باسحلتهِ ،
وهي عبارة عن رمح طويل بيده اليسرى، وسيف قصير محدب بيده اليمنى، وكأن المعركة ما زالت حامية،
وما ان اصبح النصر في متناولهم وربح رجال (لكش) تلك المعركة، حتى تقدموا في الحقل الثالث ،
لتعداد قتلاهم في ميدان المعركة ، واكثر اهمية من ذلك ، لتوفير مدفن لائق بهم،
حيث جمعت الجثث في(كومة) وغطيت بالتراب ، ثم قدمت طقوس الدفن المعتادة .

 

وتاتي بعد ذلك ، خاتمة كل الحروب الناجحة، وهو مشهد الاسرى الذين يقادون الى الاسر.
وهذا المشهد كان دون ريب مصوراً على اوطأ حقل، وللاسف الشديد ، فان كل ما بقي منه سالماً، هو راس حليق لاسير مُقاوم ،
ويُرى وقد نفذ الرمح في جبهته تماماً .

ان صورة الوعي الفكري الانساني ، التي بلغتها الحضارة السومرية، هي نقلة نوعية جديدة في تاريخ الحضارة الانسانية،
 حققتها الحضارة العراقية لاول مرة في التاريخ  الانساني. فحالة الوعي والادراك، بالتمييز ما بين النظام الطبيعي للوجود،
والنظام ما فوق الطبيعي . كانت بالضرورة تتضمن ، قوى غيبية لها فاعليتها الحيوية في سير الظواهر ،
وقد وجد الفكر السومري ، في اعمال النحت، وسيلة لتوضيح مثل هذه الصور الذهنية. فاوجد عالماً بديلاً عن واقعه الحياتي،
فكان اندفاعه لتكوين عالم اخر من القيم والمعتقدات، له صفة الثبات والديمومة، بدلاً من عوالم الظواهر الحياتية المتغيرة.
 فاكتسبت الظواهر بل والوقائع ، مضامين روحية، بدلاً من خصوصياتها الواقعية المباشرة.

فلهذا النصب التذكاري ، كما سبق ان قلنا، مظاهر دينية. فقد خصص الوجه الاخر للمسلة لهذا المظهر،
 فاذا كان (إ اناتوم) قد انتصر، فان سبب ذلك يعود الى هبوط الالهة (أ أنا توم) ومشاركتها في اعمال الحرب.
ولهذا تهيمن صورة الاله (ننكرسو) اله مدينة (لكش) الحامي، على المشهد، ويظهر وبيده صولجاناً من الحجر،
يوشك ان يهوي به على رؤوس محاربين تعساء، وقعوا في شبكة ذات عيون واسعة، وقد امسك بنهايتها،
المؤطرة بشعار لكش الخالد، وهو رمز اسطوري يتركب من جسم صقر له راس اسد .

ان وظيفة المسلة بوصفهاا نصاً تشكيلياً، بصدد حجمها الهائل، ونوعية خامتها ، ومكان عرضها،
تكمن بوجود مُرسل هو (الفنان) والذي اخفى تفرده ، حتى اصبح ضمن جمهور المتلقين.
وماهية الخطاب تكمن بكونه خطاباً فكرياً اجتماعياً ، محكوماً بقوى مرجعية ضاغطة ،
كانت محددة لاليات الابلاغ وانظمة التكوين والصور ، في ايصال وتقديم المقولة.
فالقوى المهيمنة في مرجعيات الخطاب كانت قوة سياسية (شخصية الحاكم)،
ومن هنا يمكن اعتماد مسلة (النسور) بانها من اقدم الوثائق السياسية الدولية،
التي تحدد [طرق ومستوى] العلاقات بين الدول، وفي مثل هذا التاريخ الموغل بالقدم
في اوائل الالف الثالث قبل الميلاد 
.

 

ووظيفة (النص- المسلة) الاهم، هي الخصوصية الدينية للنص، فهي تبلغ عن اهمية (الاله)
 بحجم الصورة المهيمن على وجه المسلة ، وفي (كيف) العرض، وذلك باحتلال (الاله) لوحده وجه المسلة الاخر بمفرده 

. فالبنية الظاهرية للنص ، تقسم الابلاغ المبثوث ، الى دائرتين هما دائرة البشري على الوجه الاول،
 ودائرة الالهي على الوجه الاخر. لتقدم بنية النص العميقة دلالتها ، بمزج البنيتين في خطاب واحد،
ومدلول الشفرة المبثوثة ، هي ان الفاعلية كانت (للقدسي) الذي قدم (النصر) للبشري على طبق من ذهب.

فقد بدى المعتقد الديني والشعائر المرتبطة به، وقد امتلك في ماهياته كل حيز الفكر الاجتماعي.
ومن هذا التطور كله ، يبرز طابع يميز روحية الزمن ، تعبيراً عن سايكولوجيا الذات الجمعية في بنية الفكر.
 ومن هنا كان الفن (المسلة)، هو المقياس المباشر لرؤية الانسان الروحية. وبوساطة (الفن) استطاع السومريون احياء عالم وهمي،
 لم يكن كائناً في الوقائع المحسوسة، فاستثمره سلاحاً فاعلاً في يد الجماعة لحل اشكاليات قلقها الوجودي بكل تنوعاته وارهاصاته.

ولعل من اهم سمات الاسلوب السومري في مشهد المسلة (النسور) هي تغييب (المنظور) والميل الى التسطيح .
 فكان تمثيل الاشكال القريبة بنفس حجوم الاشكال البعيدة عن النظر ، وكان (التاويل) الفكري الاخر،
هو التلاعب في حجوم الشخصيات وفقاً لدورها وهيمنتها في بنية (الفعل ) داخل النص.
دون مراعاة لاية قواعد بصرية داخل التكوين ، ومن هنا احتل حجم (الحاكم) فضاءً تصويرياً مساوياً لحجم كل جنود جيشه .

وافرزت البنية الثقافية السومرية، نظاماً للاشكال البشرية في التمثيل الفني ، هو اقرب للاشكال الاصطلاحية منها للاشكال الواقعية
 . فصور الرموز الميتافيزيقية، المتسامية نحو مقام المثال، والحكام ممن تعاظمت منزلتهم الارضية،
والبشر الذين كتب عليهم ان يؤدوا طقوس العبادة في محراب الاله دون تقصير, كان يُمثل باشكال تجريدية ،
 بقصد توسيع نظام الدلالة الرامزة ، والكامنة في بنية العلاقة بين الدوال والمدلولات. وذلك بالانتقال بالشكل
(الطبيعي) من صورته العرضية الى جوهريته الخالدة. بغية توضيح تمظهر الانسان بمسحة (الهية) وجذب (المغيب)
 نحو دلالته المحسوسة . حيث تبدو الفوارق بين انظمة الصور بسيطة ، وترتبط بما تحمله الشخصيات من رموز دالة ،
 لتؤدي دورها في مسرحة الوجود .

ان مظاهر الاختيار الواعي في الاختزال والحذف والتبسيط والتاويل، في سمات ومواصفات الاشكال الرمزية
في مسلة (النسور). قد جعل اشكال المقاتلين دون مسميات، انهم جنود مجهولون، وهم هنا بمثابة رموز،
 وليسوا شخصيات ، وان دورهم في تفعيل الحدث ، هو دور عددي (رقمي) ولذلك فان تكرار اشكالهم واحداً تلو
الاخر الى ما لا نهاية ، اريد به تاكيد كثرتهم العددية ، فوجودهم كان دوراً رمزياً وليس تاكيداً واقعياً
وتاويل الدلالة هو تفعيل دور الصورة ، وذلك بالانتقال من الجيوش البشرية الارضية، نحو الجيوش الكونية،
التي لا يحدها عدد، فهي هنا تتحرك في حدود دون حدود. وبما يتطلبه النص الملحمي والاسطوري ،
والذي يرفض محدودية الازمنة  والامكنة والاعداد، وحتى خارج مجال المساحة التصويرية ، نحو المُتخيل ،
 الذي لا تحده معالم في خطابه مع المطلق .

ان عبقرية النحات (السومري) تكمن في اعقد مناطق النص التشكيلي واكثرها اشكالاً، ذلك ان ابداعه يكمن ،
 في (كيف) احالة النص، من كونه حكاية ادبية مروية، الى بنية فنية تشكيلية ، شريطة ان يتعدى
محدودية الحكاية، نحو انفتاح النص الاسطوري . فشبكة الصياد السومري كانت فاعلة في توفير مصدر
 غذائي مهم من الاسماك في الانهار السومرية. والمهم هنا، هو تاويل ماهية الصورة، وذلك بازاحة المعنى
 من وظيفتها الحياتية الى مدلولاتها الكونية. فشبكة (الاله ننكَرسو) لم تعد  شبكةسمك ،، انها شبكة كونية،
باستطاعتها ان تسجن في جوفها، كل مشاكسي القانون في العالم. انها الشبكة الرمز ، شبكة الفن، التي يُحكم غلق نهايتها ،
اعظم قوة رمزية، هي رمز الموت، رمز الاله (امدكود – سكورو). والذي يتركب في دلالته ، من علامتين،
هما راس الاسد مدلول القوة، وجسم الصقر، مدلول السطوة والسرعة. ذلك ان تركيب مدلول العلامة قد فعل
دلالتها من مدلولاتها السياقية، نحو دلالتها  اللامحدودة القراءة والتعرف في بنية النص الاسطوري .

 

 

Comments are disabled.